جلست الأيّم الثكلى تبكي ابنها الوحيد الذي خسرته. أصدقاء العريس الميت جاءوا يبكونه وينتحبون، وهم لا يصدّقون هول المصاب. حبيبته التي أحبّته مات قلبها لرؤية نعشه. بصوتٍ راجفٍ افتتح كاهنُ الرعيّة الصلاة لنفسه. دعا المؤمنين للصلاة، ففيها وحدها نجد الرجاء، وفيها العزاء الوحيد لقلوبنا.
ما هي إلّا عشر دقائق حتّى تبدّل المشهد. فقد وصل سعادة النائب ليؤدّي واجب العزاء. بالطبع يصل متأخّرًا إلى الجنازة، فهذا من شيمه، ويدخل الكنيسة مع مرافقيه، كمن جاء إلى جبهة قتال. هرجٌ ومرجٌ عند الباب، فهنا من يزحف نحو النائب المصون للثم يديه، وهناك من يستلّ هاتفه ليأخذ له الصور. رئيس البلديّة والمخاتير ورؤساء الأحزاب تركوا أماكنهم، وتركوا الصلاة، تركوا الكنيسة وتركوا الله، وهرولوا نحوه لإلقاء التحيّة.
حمل أحد أزلامه الكرسي الكبير ودخل فيه إلى الصفّ الأمامي، ووضعه أمام أمّ الفقيد. فالنائب لا يليق به إلّا الأماكن الأماميّة. لم تعد الأمّ مهمّة، ودموعها لا معنى لها بعد اليوم، “فتعاسة” النائب هنا. صعد زلمٌ آخر إلى المذبح نحو الكاهن ليبلغه بقدوم الشخصيّة العظيمة. كان الكاهن يصلّي… لا يهمّ فهناك ما يحصل أهمّ بكثير من مضيعة الوقت هذه. همس بأذنه: “إجا النايب، رحّب فيه”.
وهكذا تحوّلت الجنازة المهيبة، إلى حفلٍ سياسيٍّ انتخابي تافهٍ قذرٍ يشبه مجتمعنا النتن. ففي تلك الجنازة سقط الله وعاش النائب. مات الرجاء المسيحي الكبير، وقام التوكّل على النائب الصغير.
إلى متى تبقى كنائسنا مكانًا لمهزلاتٍ من هذا النوع، وإلى متى تُغتصب جنازاتنا؟ إلى متى يستغلُّ أهل السياسة حزن الناس في حسابات زمنيّة ضيّقة؟ أخذتم كلّ شيءٍ، حياتنا وفرحنا، فدعونا أقلّه أن نموت بسلام دون أن نرى وجوهكم المعبّسة. كنائسنا حياة، أمّا أنتم فقبورٌ تسيرُ بين الناس. على كلّ حال، لستم أنتم المذنبين، إنّما الناس الذين رفعوا شأنكم.
يا فريسيّي أيّامنا، أزيلوا نفاقكم عنّا واخرجوا من كنائسنا. لا تعودوا إليها إلّا تائبين كالعشّار الذي يقف عند الباب ويطرق صدره ندمًا. فاليوم أنتم في الصفّ الأوّل، أمّا في الغد فأنتم في داخل النعش، فبما تواجهون الربّ يسوع؟ بالكذب والنفاق أمّا بالسرقة والتجارة بالناس؟
لما لا تُسمى الأشياء بأسماءها من دون لف ولا دوران…
من حق المواطن اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً أن يعرف إسم النائب لئلا يفقد كاتب المقال والقيمين على هذا الموقع مصداقيته…
إعجابإعجاب
عزيزي ريشارد، لا يحكي هذا المقال واقعة تاريخية محددة، إنما هو مشهد دائم اعتدناه، وأنا بنفسي شهدته 4 مرات في أقل من سنتين. وفي هذا المقال نتحدث عن نائب واحد، أما في الواقع فالسياسيون الذين يسارعون إلى استغلال تلك المواقف أكثر بكثير. واقتضى التوضيح.
إعجابإعجاب