بعد الحرب اللُبنانيّة وما جاءت به من تبدّلات ديموغرافيّة، دخل المسيحيّون في فوضى عيش الأسرار بعيدًا عن الرعيّة، لأسبابٍ كثيرة، أبرزُها صعوبة الوصول إلى رعيّة الأصل. فاعتاد المسيحيّون طيلة أربعة عقود، قبول سرّ العماد مثلًا، أينما أرادوا، دون الرجوع إلى رعيّتهم أو حتّى إلى مرجعهم الديني المحلّي.
الصعوبة في طاعة الكنيسة
أمّا التدابير الكنسيّة الأخيرة التي تقتضي بعودة ممارسة الأسرار إلى رعيّة الانتماء، فقد واجهت رفض الكثيرين تحت شعار حريّة خيار جرن المعموديّة، أم بحجّة قطع نذرٍ لهذا القدّيس أو ذاك. فلا أدري إن كان القدّيس فعلًا يرضى بمخالفة تدابير الكنيسة وتعاليمها. وها هي الكنيسة اليوم بتعليمها وتدبيرها تُعيدُ صراحةً ممارسة جميع الأسرار إلى رعيّة الانتماء، وتواجه بذلك صعوبة قبول الناس للتبديلات الحاصلة.
الولادة من رحم الرعيّة
لقبول سرّ المعموديّة في رعيّة الانتماء دون سواها سببٌ لاهوتيّ. فالمعموديّة هي الولادة الروحيّة الجديدة من الجرن، الذي يرمزُ إلى رحم الرعيّة أي الجماعة التي ينتمي إليها المُعمّد. فكما يولد المرءُ من رحم أُمّه الجسديّة دون سواها، كذلك يولد مولود الروح، من رحم أمّه الروحيّة، أي رعيّته، دون سواها.
أضف إلى ذلك، أنّ الأسرارَ وإن احتفلنا بها ليتورجيًّا في “الْهُنا والآن”، هي امتدادٌ لأحداث الخلق والتجسد والفداء، في اللاّنهاية واللاّ محدود. وإن كان المعمّد يلقى سرّ العماد يوم عيد الدنح مثلًا أو في أيّ تاريخٍ يختاره أهلُه، فمعموديّتهُ بمفاعيلها هي حدثٌ لا ينتهي، ولا يُحدّهُ الزمانُ أو المكان. وفي رعيّته حيثُ ينتمي، ينمو المؤمن بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس. فتكون المعموديّة حدثًا أزليًا يمتدُّ ويُعاشُ في الرعيّة حيثُ ينتمي كلُّ مؤمنٍ.
الحياة والنموّ في الرعيّة
والأمرُ سيّان بالنسبة لباقي الأسرار، فلا بدّ للزواج مثلًا أن يعود يومًا ما إلى رعيّة الانتماء، حيثُ يرتبط الزوجان بمذبحِ رعيّتهم، وحيثُ يحيون السرّ مدى الحياة أمام الله والناس. فتكون العائلة الصغيرة مُحاطة بالرعيّة، أي العائلة الكبيرة.
كم هو مؤسفٌ أن تُجرَّدَ الأسرارُ من بُعدها العميق، وأن تأخذ فقط الطابع الاجتماعي، فتصير رهينة مزاجيّة الناس، أم عاداتهم الاجتماعيّة التي طغت عليها المظاهرُ الفارغة! ولو حتّى أثارت تلك الكلمات حفيظة البعض ممّن تمرّدوا على تدبير الكنيسة أو ممّن أرادوا لمزاجيّاتهم الطريق لعيش إيمانهم، يبقى السبيل الوحيد لعيش الأسرار ومفاعيلها بصدقٍ هو الانتماء الفعلي إلى الرعيّة، التي ترافق وتُربّي وتُنمّي.
اترك تعليقًا