لماذا التبخير؟

أخرجُ من منزلي الكائنِ وسط سوقٍ تجاريٍّ في كلِّ صباح، وأمرّ في المحال التجاريّة المزروعة إلى شمالي ويميني، وأرى على أعتابها مباخرَ ما زال الجمرُ فيها متّقدًا. ألتفتُ إلى أحدِ المتاجر، فأرى البائعَ يحملُ المبخرة العابقة بالبخور، يدور في الزوايا، يحرصُ على مباركة البضائعِ كلّها.

وأنا على عادتي أسائلُ كلّ شيء. أسائلُ نفسي، وأسائلُ الآخرين، وأسائلُ الله. فهذا حقّي. فقرّرت فيما يلي أن أسائل تلك المباخر المرصوفة في طريقي، أن أحاور عطورها علّها تُفهمني ما تقول، أن أتقصّى كالعادة من أين جاءَتنا، وإلى أين تُمضينا معها.

البخور والرمز الديني

لا بدّ أن نبدأ بحثنا في التفتيش عن الأصلَين الاجتماعي الصرف والديني للتبخير. عرفَ الإنسانُ البخورَ منذ القديم وقد أحرقهُ في العديد من الطقوس الاجتماعيّة الدنيويّة. فكان استخدامه محصورًا تارةً بالأغنياء، في المناطق حيثُ ندرَ وجودُهُ، أو انتشر َعلى نطاقٍ أوسع في البلدان التي أنتجته بوفرة. وممّا لا شك فيه، أنّ شهرته حقّقها لجمال رائحته.

أمّا أصلُ دخول البخور إلى العبادة الدينيّة فهو صعب التحديد إلى اليوم. فالبخور ليس حكرًا على المسيحيّة أبدًا، بل استخدمته الديانات الأكثر قدمًا في طقوسها وممارساتها. وغالبيّة ديانات اليوم، على تنوّعها، تستخدمُ البخور في طقوسها.

يرجّح الباحثون أن تكون جذور التبخير في الديانات مُرتبطة بالذبائح الحيوانيّة في الطقوس القديمة. فلرائحته القُدرة على تغطيّة الروائح الكريهة الصادرة عن إحراق الجيَف. كما يستطيع دخانُه طرد البعوضِ والحشرات خلال ممارسة الذبائح.

ويرجّح البعض أن يكون استخدام البخور نوعًا من شخصنة الآلهة، لأنّ الإنسان القديم استعمله قبلًا في تكريم الأباطرة والملوك، وبالتالي، فهو يعامل آلهته معاملة الملوك.

لا بدّ في الختام أن نذكر أنّ بعض المجتمعات الدينيّة ربطت البخور بالشرّير والأرواح الشرّيرة، أو أعمال الشرِّ عامّةً. ففي بعض الأحيان، كان استخدامه في تكريم الشرير، وفي أحيانٍ أخرى، كان استعماله لطرده أو للحدّ من شروره. فالكتاب المقدّس يسمّي الشرير “بعل زبوب” أو ربّ الذباب، لأنّه يزعجُ الإنسان كالحشرات، ولا يتركُهُ بحاله. ولأنّ للبخور القدرة على طرد الحشرات، اعتقد الإنسانُ في قديم العصور أنّهُ يقضي بالتبخير على الشرير أو يُبعدُه على الأقل. وقد سُميّ الشرير أيضًا “بعل زبول” أي ربّ النفايات.

البخور ومعناه المسيحي

إذن، لم تأتِ المسيحيّة في ليتورجيّتها بالجديد، حين أدخلت إلى طقوسها اللبان والعطور. بل تبنّت عاداتٍ قديمة، ومنحتها المعاني الجديدة، كما هو الحال لكثير من العادات والتقاليد. فصار للتبخير مكانته في الليتورجية المسيحيّة.

وفي رسالته العامّة “ليتورجيا الكنز الحيّ” أوجز البطريرك الراعي رمزيّة البخور في مختلف أبعادها، مُستندًا إلى “منارة الأقداس” للبطريرك إسطفان الدويهي. البخور يقدّم لله إكرامًا وصلاةً لمجد الثالوث الأقدس وإكرامه. “ويُشار بالمبخرة إلى السيّدة العذراء التي قبلت يسوع في حشاها البريء من الدّنس ولم تحترقْ من حرارة لاهوته. وبسلاسل المبخرة يُشار إلى الأقانيم الثلاثة المتساوية في الجوهر والقدرة والجودة. وبالحلقة التي تجتمع بها السلاسل، إلى الطّبيعة الإلهيّة الواحدة بثلاثة أقانيم” (ليتورجيا الكنز الحيّ، عدد 35). فالتبخير في الليتورجية لهُ معانٍ ثلاثة: تمجيد الله، واستذكار من فاحوا في العالم رائحة المسيح الطيّبة، والتكفير عن الخطايا.

وقد ذكر الكتاب المقدّس البخور في عهدَيه القديم والجديد، حيثُ ارتبط في المزامير ارتفاعه بالصلاة (مزمور 140-141)، وفي العهد الجديد صار رمزًا للمسيح الذي «بذل نفسَه لأجلنا قربانًا وذبيحةً لله طيّبةَ الرائحة» (أف 5، 2).

المعنى يكمُنُ في المرموز إليه

بالعودة إلى شارعي الصغير ومباخره المرصوفة، حيثُ يمارسُ التبخير خارج إطاره الليتورجي، لا بدّ من التفكير بالمعنى الذي نمنحه لعادتنا هذه. جوهريّةٌ هي مرافقة العادة بالصلاة لتأخذ معناها المسيحي، وإلّا بقيت حركات خارجيّة، تُشبه الوثنيّة بعض الشيء. فالبعض يربطُ التبخيرَ بمُعتقداتٍ لا تؤمنُ الكنيسة بها، كإبعاد العين والحسد وطرد الأطياف، والبعض الآخر يتخيّله طقسًا إلزاميًا لطرد المصائب وحماية الأرزاق، طالبًا فيه الراحة النفسيّة والأمان في وجه المجهول.

إذا ما اخترنا أن نُحرق البخور في الصباح، فليكُن مرافِقًا للصلاة ولمناجاة الربّ. فلا نقعنّ في فخّ الشكليّة، ونتبنّى المظهر، متجاهلين الأساس. من المؤكّد ألّا قوّة خاصّة للبخور، والإيمان بذلك هو أشبه بالاعتقاد بالسحر وممارساته. وحدها الصلاة فيها القوّة الحقّة، وما يرافقُها ليس أكثر من أدواتٍ مساعدة. فما الرمزُ إلّا المُشير نحو المرموز إليه، فليس له أن يأسُرنا، بل يدعونا لخوض مغامرة المعرفة العميقة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: