لم أكُن أعلم في بدايةِ المشوار الروحيّ أنّ المضيَّ فيه يتطلّبُ رفيقًا في الطريق. ففي طرقاتهِ أتوهُ أحيانًا، وفوق المطبّات كثيرًا ما أهوي، وأمام وَعرهِ تَهونُ عزيمتي. فاكتشفـتُ في نفسي الحاجةَ إلى مُرشدٍ، أكثر منّي خبرةً، يُرافقني في الطريق. هو لن يسيرَ مكاني، ولن أسعى لأعيش الحياة التي يعيشُ هو، بل سأضعُ نفسي أمامه، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وله أن يدلّني إلى الطريق المُفضي إلى يسوع. لهُ أن يجعل عيناي أكثرَ بصرًا، ولي أنا أن أختار رؤيةَ عظائم الربّ. لهُ أن يُصغي ويُسائل ويُحذّر ويشجّع، يوبّخُ حينًا ويهنّئ أحيانًا، ولي أنا أن أثابر في الجدِّ نحو القداسة. ما اكتشفته في حاجتي إلى مُرشدٍ أضعه بين أيديكُم، علّكم تشعرونَ بالحاجة نفسها، فيصيرَ سيرُكُم صيرورة نحو الأفضل، في دربٍ تُنيرها كلمة الله.
من هو المُرشدُ الروحي؟
ليسَ المُرشدُ معالجًا نفسيًّا، ولم يكُن يومًا مُساعدًا اجتماعيًّا. فكثيرًا ما نعتقد أنّه قد يُساعدنا في علاجِ الاكتئآب أو الرهاب مثلًا، أو في حلّ أزماتنا الاجتماعيّة وخلافاتنا العائليّة. مع العلم أنّ مرافقته لنا في خضّم الصعاب تمنحُنا القوّة للثبات في المِحَن. ولا بدّ لنا أن نذكُر أنّ المُرشد غير معصومٍ عن الخطأ، فقد يفشلُ أحيانًا في سيرهِ هو نحو الملكوت، علمًا أنّه بدوره، يحتاجُ لمقابلة مُرشدِهِ بشكلٍ دوريّ.
بل هو مرافقٌ في الطريق، يعملُ الروحُ فيهِ، في كلماتِهِ التي يقولها إذا ما أصغى لإلهاماته. هو الذي يُساعدنا في اكتشاف ذواتنا ومواهبنا، ويوجّهنا نحو عيشها في الكنيسة. يكونُ المُرشدُ نبيًّا في شهادته للحقّ، ويكون أبًا معلّمًا في تربيته لنا، ويكونُ شاهدَ قداسةٍ صادقٍ أمامنا.
كيف نختارُ مُرشدنا الروحي؟
لا بدَّ من اختيار من له السنوات الطويلة في الاختبار الروحيّ. الخيارُ الأفضل هو خوري الرعيّة أو من يعاونُهُ، لقربه منّ المُسترشد ولمعرفته الجيّدة لواقعه. أمّا إذا تعذّر ذلك لأيّ سببٍ كان، فيمكنُ حينها اختيارُ كاهنٍ آخر، أو أيّ مكرّسٍ آخر في الحياة الرُهبانيّة، وفي بعض الأحيان من العلمانيّين الذين امتازوا بالفضائل والشهادة المسيحيّة الصادقة. إلّا أنّني ما زلتُ أُفضّلُ في الوضع الراهن الاسترشاد لدى الكهنة لأسبابٍ كثيرة، منها أنّ لهم وحدهم السلطة على منحِ الأسرار.
أمّا العامل الآخر، وهو أساسيٌّ ولا يُمكنُ إهمالهُ، فهو التأثّر بروحانيّته الفريدة. فالخطّ الروحي لكلّ مُرشدٍ يُشكّلُ الجاذب الأوّل لنا لاختياره دون سواه. أمّا الثقة التي نشعُرُها في ائتمانِهِ على ما في داخلنا فلا نُهملها، لأنّها عاملٌ أساسٌ في اختيارنا المُرشد الروحيّ.
كيف يسيرُ الإرشاد الروحي؟
انطلاقًـا من اختباري المتواضع، أنا أشجّعُ تحديد موعدٍ ثابتٍ للّقاء بالمرشد، مرّةً في الشهر مثلًا، مع تحديد وقتِ الاسترشاد. ومن الضروري أن يتحضّر المُرشِد والمُسترشد للّقاء بالصلاة والصوم. قد يكتبُ المُسترشدُ في ورقةٍ ما يُريد مناقشته في لقائه، ذاكرًا الانتصارات والانكسارات. كما يُمكن اختيارَ موضوعٍ محدّدِ أو تناول جانبٍ من الحياة الروحيّة لمدّة طويلة، تُساعدنا إلى التقدّم في الحياة الروحيّة.
يترافقُ الإرشاد مع التأمّل الدائم في الكتاب المقدّس والتقدّم الدائم من الأسرار والصلاة الشخصيّة والقراءة الروحيّة، فلا يُمكنُ الاتّكال الكامل على المرشد وكأنّ له وحده مسؤوليّة نموّي الروحي.
رحلةُ الإرشاد إبحارٌ نحو العمق في سفينةٍ ينفخُ الروح في شراعها، فلا نخافنّ التورُّطَ. ليس في الحياةِ نقطةَ لا عودة، فمهما كانت الظروف التي نعيشها اليوم، فلا نمنع أنفسنا من خوض غمار الرحلة المقدّسة في تقدُّمٍ دائمٍ نحو الأعلى.
اترك تعليقًا