تراتيل الهشّك بشّك

لن أتوقّف في مقالتي هذه على الألحان التي دَخَلَتْ قُدّاسنا الماروني أو اللبناني بشكلٍ عام في بعض الرعايا، بل على الكلمات الكارثيّة لبعض التراتيل. فأنا بطبعي لا أمانعُ الجديد، الذي قد يحملُ لنا الغنى الروحي، وقد حفظتُ الكثير من الترانيم الجديدة، ذات الإيقاع السريع والحديث، ورتّلتُها في صلاتي. أمّا ما أردتُ الكلام عليه، فهو تلك التراتيل التي نُصِرُّ على أدائها، ولا معنى حقيقي لكلماتها، وتناقضُ حتّى بمعانيها تعاليم الكنيسة.

تراتيل اللّا معنى

يُدهشُني منظرُ ذاك المرنّم المنفرد الذي يتلو بتأثّرٍ واضحٍ تلك الترنيمة ذات اللحن الحنون، على مقام النهوند، والناس تخشعُ وتقومُ وتركعُ وتدمعُ… وفي الواقع لا معنى حقيقي لأيِّ كلمةٍ من كلماتِ الترنيمة، حتّى أنّها باتت خبيصًا غيرَ مفهومٍ لعباراتٍ وأصواتٍ مُتنافرة. وكأنّ موضة تعريب الأغاني التُركيّة انتقلت من الإذاعات إلى الكنائس. والناسُ يتأثّرون! بماذا؟ لا يهمّ، فالمهمّ هو أن يتأثّروا.

لا يمرُّ أسبوعٌ إلّا وأسمع في أحد القداديس أغنية “أعطني الكلام تغنّيلك حبّي”. طبعًا هي ليست ترتيلة، لكنّها تُرنَّم، والناس تُحبّها. بالطبع أنا أحترمُ من ألّفها ولحّنها، وأكنُّ كلَّ التقدير للراحلة الكبيرة سلوى القطريب التي غنّتها. لكنّي وضعتُ مرارًا تلك الكلمات أمامي وقرأتها مئات المرّات، وصراحةً لم أجد أي معنى لأي عبارة فيها! مثلًا ما معنى: “أعطي للّي راحوا الأمان”؟ أو مثلًا: “أعطني العطا للعطا”؟

أقدّم لكم مثالًا آخر: في عيد النبي إيليّا العام الماضي، سمعتُ شيئًا فظيعًا، مطلعه: “إنت الخيّ، وإنت البيّ، يا مار الياس الحيّ”. لا تعليق… كائنٌ من كان كاتبُ تلك العبارة، أسألهُ باللّه ألّا يمسكَ قلمًا بعد اليوم. مثالًا أشنع، تلك الطقطوقة التي أسمعني إيّاها صديقي، وهي منظومة على لحنٍ شعبيِّ محبّب، وتقول: “بكيوا حجار البيت، لمّا بعتّي الزيت، يا ريت بتضّلي معنا، يا عدرا يا ريت”. هل تبكي حجارة البيت بسبب الزيت؟ وأيُّ زيت؟

أمّا الكارثة الكُبرى فهي تلك التراتيل التي تناقضُ تعليم الكنيسة، وفي كلّ جملةٍ تحمل هرطقات بالجملة. لا بدّ لهذه الفوضى أن تتوقّف. أنا أحمّل الإعلام المسيحي المسؤوليّة الأولى، هو الذي يُشجّع هذه الإرتكابات ويعرضُ المهزلات للناس. والمسؤوليّة الثانيّة تقعُ على عاتق الكهنة الذين يسمحون لجوقات رعاياهم بتلاوة تلك الشناعات.

إنّ الروح يرتّلُ فينا

يطول الكلام على الأمثلة، لكن ما يهمّني هو أن نضع أمامنا معايير تساعدُنا في تمييز ما نختارُ لاحتفالاتنا. على الجوقات أن تختار التراتيل بحكمةٍ بعد قراءة كلماتها مرّات عدّة، والتأكّد من معناها الحقيقي، إذا وُجِد، أيًّا كان مصدرُها. أو أقلّه، فليعرض رئيس الجوقة التراتيل على كاهن الرعيّة ليساعده في الاختيار. التراتيل الأفضل هي تلك التي تنهلُ الكلمات من الكتاب المقدّس ومن التأمّل فيه، أو من كلمات القدّيسين واختبارهم الروحي.

أمّا في شأنِ وسائل الإعلام المسيحيّة فلتَعرِضْ عن عرض التراتيل دون رقابةٍ مُسبقة عليها ودون الرجوع لمرجعٍ موثوقٍ يُقّوم ويُقيّم كلماتها. فلا نقعنّ في لعبة الإنتاج وفي فلسفة “ما يطلُبُه المستمعون” ولا نذهبنّ خلف أموال باحثي الشهرة من خلال كليبات دينيّة، تُظهرهم بصورةٍ جميلةٍ مهذّبة وبرّاقة.

“من رتّل صلّى مّرتين”، والروح هو من يُصلّي فينا، وهذا إيماننا. لا يُمكنُ للروح القدس أن يصلّي بفوضى، أو أن يُناقضَ ذاته. فلنستسلم لعمله ولنسمح له أن يُرتّلَ فينا.

تصحيح وتوضيح:

راسلني أبٌ صديقُ لي وشرح لي المعنى الحقيقي لكلمات أغنية “أعطني الكلام”، كان قد سمعه من الأستاذ روميو لحّود شخصّيًا. ألّف الفنّان هذه الأغنيّة بعد أن فقد ابنته، حين كان لها من العمر إثنتي عشرة سنة، وإذا بها أغنية وجدانيّة مجبولة بعاطفةِ أبٍ يُناجي الخالق من أجل روحِ ابنته. أعتذر عن جهلي تلك التفاصيل… لكنّ ذلك لا يسمح بتحويل الأغنية إلى ترتيلة، ولا يُجيزُ لنا استخدامها لا في الإفخارستيّا ولا في الأكاليل ولا في أيّ عملٍ ليتورجيّ.

أمّا بشأن أغنية “حجار البيت”، فقد أشار لي الكثير من القرّاء أنّ الكلمات الحقيقيّة هي “فرحوا حجار الزيت” بدل “بكيوا حجار الزيت”. في كلّ الأحوال لن تضيف هذه الكلمة أي قيمة لمعنى الجملة، ولا بالتالي للأغنية، ولن تبدّل الحكم فيها.

 

10 رأي حول “تراتيل الهشّك بشّك

اضافة لك

  1. كل ما يصيبني هدية منك يا الله؟ أو. ..
    ماذا أفعل يا إلهي حتى تنسى ما فعلت؟
    أو ..
    لا تهملينا يا حنونة؟
    وتراتيل الجمعة العظيمة؟
    وكتير. ..

    إعجاب

  2. أيضاّ أتفق معك على فراغ بعض الأغاني الروحية من المعاني خصوصا تلك التي تخصّ العذراء و القديسين مع الأخطاء اللّاهونية الصريحة كما في يا عدرا ارحمني ؟؟؟ و خبز و خمرو مي إيماني ؟؟؟و لكن في ما خصّ “فرحوا حجار البيت” فهي أغنية شعبية غناها وديع الصافي لمناسبة أعجوبة العذراء في سيدة بشوات البقاع

    إعجاب

  3. ألله محبّة
    أصبتَ أبتي بقالك وكثيرة هي الترانيم أو كما أسميتها تراتيل اللامعنى… ومنها أيضًا “خبز مخمر وميّ إيماني” وهي مناقضة للاهوت… ولكن ما لا أوافقك عليه ما يتعلّق بالأغنية “أعطني الكلام”فوإن وافقتك أنّها ليست ترتيلة، إلاّ أنّني لا أوافق على فراغها من المعنى…
    شكرًا لك…
    يسوع بيحبنا…

    إعجاب

  4. يجب على السلطات الكنسية ان تفرض الحصول على الاذن المسبق لاي ترنيمة من قبل المرجع الكنسي الصالح قبل السماح باستعمالها في شتى الاحتفالات كما كان الحال بالنسبة للمنشورات الروحية والا ستصبح الكنائس مثل سوق عكاظ

    إعجاب

  5. سيدي رغم اتفاقي معك على معظم ما قلت، لكنك لم تلفت النظر للأخطاء العقدية الجسيمة التي تتم في كثير من الترانيم المُناجية للسيدة العذراء أيضاً، فقد استبدلناها بالله وأصبحنا نطلب منها الرحمة ونقول أننا عبيدها وكلها ألفاظ تُدخِل بُسطاء الإيمان في تضليل إيماني كبير.
    المشكلة أن الترنيم وتأليف الكلمات والألحان، أصبح مهنة من ليس له مهنة مثل الغناء بالضبط. ولا توجد مراجعة فعلية لكلمات الترانيم ومدى إتفاقها مع العقيدة أو دقّة ألفاظها وتوافقها مع تعاليم الإنجيل.

    إعجاب

    1. صحيح… مع العلم أنّي لست ضدّ كلّ تلك التراتيل، فالمسألة معقّدة أحيانًا وتطلّب الدقّة في اختيار الكلمات. أمّا ما أصبت به فهو أنّ المشكلة في فوضى امتهان التأليف والتلحين…

      إعجاب

اترك رداً على MariaRita إلغاء الرد

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑