لعلَّ السلامَ حلمُ الشعوبِ كُلِّها، تطلُبُهُ مُنذُ نشأتِها، فلا تحظى بِهِ إلّا لفتراتٍ وجيزةٍ مِن تاريِخها. انتظرَ شعبُ العهدِ القديم مجيءَ المُخلِّص، أمير السلام (أش 9، 6)، يُخلِّصُ بلادَهُ مِن وطأةِ الاحتلال ويُحقِّقُ سلامًا نهائيًّا أبديًّا. وها قَد مرَّت ألفا سنةٍ على مجيءِ أميرِ السلام وما زالَ العالَمُ يتخبَّطُ بالحروبِ والنزاعات، وقَد كلّف بِعضُها خسائِرَ بشريّة هائلة تفوقُ الملايين. فهل فشِلَ يسوعُ المسيح في إحلالِ السلامِ الموعود؟
لَم يسعَ يسوعُ إلى فَرضِ أنظمةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ نهائيّة. لا شكَّ أنَّ مَن عاصروهُ أرادوهُ ملِكًا زمنّيًا على شعبِهِ، وقَد عبَّرَ الرُسُلُ مِرارًا عَن رغبتِهِم هذِهِ. لكنَّهُ أوضَحَ أمام بيلاطُسَ أنَّ مملكَتَهُ ليسَت مِن هذا العالَم (يو 18، 36). وسلامُهُ أيضًا ليسَ سلامًا مِن هذا العالَم، وهو لا يُعطيهِ كما يُعطيهِ العالَم (يو 14، 27).
أرادَ اللهُ السلامَ للإنسانِ وقَد وعَدَ بِهِ مُنذُ السقطةِ الأولى. ثُمَّ ذكَّرَ اللهُ شَعبَهُ مرارًا بوعدِهِ على لسانِ الأنبياء. وفي ملءِ الزَمَن، لمّا جاءَ المسيحُ عالمَنا مُخلِّصًا، جاءَ مُؤسِّسًا للسلام، الذّي صارَ مُمكنًا إذ صالحَ بينَنا وبينَ أبيه، وأظهَرَ لنا الطريقَ لنبلُغَ إليهِ نَحنُ بأنفُسِنا. وأرسَلَ بعدَ صعودِهِ إلى السماء روحَهُ القدّوس ليَعضُدنا في سعيِنا إلَيه.
لمَّا جاءَ يسوعُ عالمَنا مُخلِّصًا أعلنَ الملائكةُ مشروعَهُ للرُعاة: “المجدُ للهِ في العُلى وعلى الأرضِ السلام والرجاءُ الصالح لبني البشَرَ” (لو 2، 11). ليتحقّق هذا المَشروع، كانَ على يسوعَ أن يحمِلَ آلامَنا ويذوقَ الموت، أن يَنزِلَ بهِ العقابُ مِن أجلِ سلامِنا (أش 53، 5)، ليقومَ بعدها مانحًا سلامَهُ للعالَم. يبقى على الإنسان أن يقبَلَ بالإيمانِ عطيّةَ المصالحةِ معِ الله، فيمتلئَ قلبُهُ سلامًا: “فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح” (روما 5، 1).
إذَن، لَم يأتِ يسوع مِن أجلِ أن يفرِضَ سلامًا كما نُريدُهُ نحنُ وبالسبُلُ الّتي نُريد. بل جاءَ حاملًا مشروعَ سلامٍ حقيقيٍّ، حقَّقَهُ بشكلٍ كاملٍ بموتِهِ وقيامتِهِ إذ صالحنا معَ الله، تاركًا لنا حُريَّةَ قبولِهِ. سلامُ يسوعَ يُمنَحُ بسلام ولا يُفرضُ بِالقوّة.
لَم يفشَلْ المسيح بمهمّتِهِ. لكنّنا نحنُ مَن فشِلنا بقبولِ السلامِ الذّي يُعطيهِ. فالإنسانُ لا ينفكُّ يُسلِمُ ذاتَهُ إلى أنانيّتِهِ التّي تتسبّبُ بالنزاعاتِ والحروب. لا بُدَّ للإنسانِ، إذا أرادَ في العالمِ سلامًا، أن يبدأ بنفسِهِ، أن يتصالحَ معَ اللهِ (2 قور 5، 20) فيقبَلَ السلامَ الّذي تحقَّقَ بيسوعَ المسيح.
اترك تعليقًا