لما لا أكتبُ إليكُم؟ أعلمُ أنّي أصغركم سنًّا وأقلّكم خبرةً. وأعلمُ أنّي أنا بالذات كثيرُ الإثم وقليلُ المعرفة. أنتم مشيتُم دروبًا طويلةً في مسيرِ القداسة وأنا لا أزال في خطواتي الأولى. لكنّي أُريدُ أن أقول لكم أشياء كثيرة: سأقول لكم ما أفكّره فيكم وما أشعرُ به الآن حين أتأمّلُكُم.
مُنذُ يوم رسامتي وحبّي لكم يزيد. فأنا في كلّ يومٍ أرى كم فيكم من الأبطال. أنا أعرفُ كم قاسيتم من أجل الكنيسة، فالعطاء المجّاني فيها مؤلمٌ. أنا أعرفُ أنّ في الطريق عثراتُ الشكوك، وهمومُ الأشواك، ونزاعاتٌ مع كسل الداخل وهجمات الخارج. جبهاتٌ كثيرة قاتلتم عليها. وربّما لم تحتفلوا بنصرٍ يومًا، كموسى الذي كحّل عينيه بأرض الميعاد لكنّه لم يدخلها. بكلّ بساطةٍ، أنتم أبطال. لن يغيّر هذه الحقيقة أيّ شيء.
أكتُبُ إليكُم لأشارككم تعزيةً عزّاني إيّاها الربّ. فمنذ زمنٍ صارت لي الفرصة أن أقوم بزيارةِ حجٍّ إلى مكانٍ ما، لن أذكره، مع بعض الأصدقاء. يومها، وافانا راهبٌ شابٌ، وأخذ يُحدّثنا عن رحمةِ الله. ما بقي لي من كلّ حديثه يومها، هو تلك الجملة التي لا زالت منقوشةً في فكري وقلبي ولا تزالُ تنحتُني إلى اليوم. لقد قال: “نظرةُ الله لك لا تُشبهُ نظرتَكَ لنفسكَ”. فالله يراني أنا الكاهن لا كما أرى أنا نفسي. نظرةُ الله لي أنا حرّرتني. فإذا كانت نظراتي إلى نفسي في الطريق مكبِّلة، فعينا الله محرّرة. هكذا عزّاني الله، وأعرفُ أنّه يعزّيكُم أنتم أيضًا.
تأمّلتُ كثيرًا بالكهنوت. تأملّتُكُم وتأمّلتُ نفسي. كُنتُ أقرأُ في سفر يونان النبيّ الذي دعاهُ الله ليذهب إلى نينوى، فهرب من وجهه إلى ترشيش. ركب البحر رمز الموت، وأبحر نحو بلاد الوثنيّين، علّه يهربُ من وجه الربّ. ولمّا قام البحر لابتلاعه، نزل ليرقد في قعر السفينة، وكأنّ نفسَهُ تطلُبُ الموت. دعاهُ البحّارةُ ليصلّي إلى إلهه علّه ينظُر إليهم، لكنّه فضّل أن يبتلعه وحش البحر الجائع على العودةِ إلى الربّ. لكنّ الربّ أعدّ له الخلاص. فنبيُّ الربّ لا تُفنيه أمواج الموت. يونان في القعر بقي نبيًّا ولن تُنزعَ منه النبوّة. والكاهنُ حتّى لو نزل القعر، كاهنًا يبقى، ولن يرفع الله يدهُ عنه.
أذكُرُ قبل رسامتي بأيّام، حين التقيتُ بالأسقف القدّيس المثلّث الرحمات الذي عايشتهُ. قُلتُ لهُ يومها أنّني خائف. ابتسم لي وقال: “الله دعاك وهو بيعرف شغله”. الله دعانا لا عن استحقاقٍ منّا، بل بحبٍّ مجّاني كامل. هو يرى فينا من جمالاتٍ ما لم نرَ في أنفسنا من قبل. هو يعرفُ ما نقاسي ويقاسيهِ معنا. وهو، يوم نتفانى في خدمة كنيستِهِ، يكونُ فرحهُ في السماء عظيمٌ.
أشكركم لأنّكم أصغيتُم إليّ. لن أطيل الغيابَ عنكم، فإذا سمحتُم لي، أريدُ أن أكتبَ إليكُم أشياء كثيرة بعد.
اترك تعليقًا