كثيرونَ سمعوا دعوةَ الربِّ يسوعَ وتركوا كُلَّ شيءٍ وتبعوه. تَرَكَ الرُسُل كُلَّ شيءٍ: البيتَ، والوالدَينِ، وشباكَ الصيد، وطاولة الصَيرفة. وقدّيسونَ كثيرونَ فعلوا أيضًا كذلِكَ، وتخلّوا عمّا كانوا يملكونَ من ثرواتٍ. منهم أنطونيوس وفرنسيس وكلارا وأسماء لا تُحصى ولا تُعدّ. وبيننا الكثيرون مِن الّذينَ يرغبونَ بالتخلّي أيضًا عن كُلِّ شيء، استجابةً لدعوةِ يسوع، فحبُّهُ يبلُغُ فينا الغاية ونُريدُ أن نُحقّق بجذريّةٍ ما يدعونا إليهِ. لكنَّ عالمَ اليوم يُعطي أهمّيّةً للمالِ وللمادّة أكثَرَ من أيِّ وقتٍ مضى. وصارَت الحياةُ في التخلّي شبه مُستحيلة، حيثُ ازدادَت حاجةُ الناس إلى الأشياء والمُقتنيات، وكأنَّ الحياة من دونِها مُستحيلة.
كُلّ شيء…
يومَ جاءَ الشابُ الغنيُّ إلى يسوعَ يبحثُ عَن السبيلِ المُفضي إلى الحياةِ الأبديّة، دعاهُ يسوع في ختامِ لقائهما لأن يبيعَ كُلَّ ما يملِك ويتصدَّقَ بهِ، ويتبَعَهُ بعدها. لكنَّ الشابَ الغنيَّ حزِنَ جدًّا لأنّهُ كانَ ذا مالٍ كثير (لو 18، 18-23). فالتخلّي عن كُلِّ شيءٍ لاتّباعِ يسوعَ المسيح، النصيبِ الأفضَل، ليسَ سَهلًا، خصوصًا إذا تعلَّقَت قلوبُنا بالعطايا وأحببناها أكثَرَ مِن عاطيها. لذلك حذَّرَ يسوعُ مرارًا مِن المالِ، لا لأنَّهُ شرٌّ بذاتِهِ، بَل لأنَّهُ يأسُرُ حُرّيَّةَ الإنسانِ ومشيئتَهُ فيخضع لهُ، ولا يقدِرُ بعدها قبولَ مشيئةِ الآب، لأنَّ لا أحَدَ يقدِرُ أن يعبُدَ ربَّين: “إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر” (متّى 6، 24).
هذا التخلّي عَن كُلِّ شيءٍ لكي نتبَعَ يسوع، يشترطُ أوّلًا فهمًا حقيقيًّا وعميقًا لدعوةِ يسوع لنا، وثانيًا رغبةً صادقةً لا غشَّ فيها باتّباعِهِ.
أُترُك!
لقد حقّق يسوعُ عمليًّا في حياتِهِ على الأرض كُلَّ ما طلَبَهُ منّا. وفي تأمُّلِهِ نجدُ فهمًا لما دعانا إليه، وسبيلًا واضحًا لاتّباعِهِ. فالّذي دعانا للتخلّي عن كُلِّ، تخلّى هو أيضًا عَن كُلِّ شيء. تخلّى أوّلًا عَن بيتِهِ الّذي عاشَ فيهِ ثلاثينَ سنةً، وتخلّى عَن أموالِهِ الّتي جناها بطبيعِة الحال مِن عملِهِ كنجّار أو بنّاءٍ، وتخلّى عن مُجتمعِهِ الّذي عاشَ فيهِ، وانطلق مُرتحلًا مِن مدينةٍ إلى أُخرى لا يملكُ شيئًا. والتخلّي عَن المادّيّات، هو جُزءٌ مرئيٌّ ومحسوسٌ من إخلاءِ يسوعَ المسيحِ لذاتِهِ.
يشرحُ لنا القدّيس بولُس في رسالتِهِ إلى أهلِ فيليبّي إخلاءَ يسوعَ لذاتِهِ، إذ إنّهُ “هو الَّذي في صُورةِ الله، لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة، بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب” (فيل 2، 6-8). هذا الإخلاء هو التجرُّد مِن الذّات، واتّخاذُ حالَةِ العبوديّةِ، طاعةً لمشيئةِ الآب، وحبًّا بالآخرين. وهذا ينبعُ مِن الثقةِ الكاملة بالمجد الّذي يهبَهُ الآبُ لمَن يطيعُهُ حتّى الموت مِن أجلِ الآخرين. فهو “بعدَ موت ابنهِ، رَفَعَه إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء” (فيل 2، 9).
إتبعني!
إذن، ما يدعونا إليهِ يسوع، في دعوتِهِ إلى التخلّي عَن كُلِّ شيءٍ، هو أن نُخلي ذواتنا حتّى الموت كما فعَلَ هو. وهذا الإخلاء يكونُ مِن أجلِ الآخرين. ما أجمَلَ الحياة حينَ تُهرَقُ مِن أجلِ مَن نُحبّ! هذا ما قصدَهُ حينَ قال: من أرادَ أن يتبعني فليكفُر بنفسِهِ وليحمِل صليبَهُ وليتبعني (لو 9، 23). واتّباعُ يسوعُ يكونُ إلى حيثُ يذهّبُ هو، أي حتّى الصليب، وبعدَهُ إلى مجدِ القيامة. أمّا التخلّي عن عبادةِ المادّيّات، فليسَ إلّا الخطوة الأولى في مسيرةِ إخلاءِ الذّاتِ الّتي دُعينا إليها.
هذا الإخلاء مُستحيلٌ عندَ الناس، لكنَّهُ مُمكنٌ معَ الله. إذا وُجدَت في الإنسانِ رغبةٌ صادقةٌ وحقيقيّةٌ بالتخلّي عَن كُلِّ شيءٍ، حتّى الكُفرِ بذاتِهِ، واثقًا باللهِ الّذي يُغني ويعطي نعَمَهُ أضعاف، فاللهُ يُظهِرُ لهُ سُبُلَهُ ويعضُدهُ في سعيهِ. وما إن يختبِر الإنسانُ الحياة بحسبِ مشيئةِ الله ولو لمرّةِ واحدة، لن يرغبَ بعدها أبدًا بالحياةِ بعيدًا عنها. وإن سقط مرارًا، وأسرَتْهُ شؤونُ الأرضِ، عادَ دومًا إلى الله طائعًا مشيئتَهُ.
فلتبقَ عيونُنا شاخصةً مُتأمِّلةً بالربّ يسوع المسيح، الغنيّ الّذي صارَ فقيرًا مِن أجلِنا، ولتتقّد فينا الرغبةُ بالاقتداء به، مُتخلّين عَن كُلِّ شيءٍ، مُتحرّرينَ مِمَّا نملِك أو ما نعتقدُ أنَّنا نملِك، ولنستسلِم إلى مشيئة الآب واثقينَ بالمجدِ الّذي أعدّهُ للّذين يُحبُّهُم.
الرغبة الصادقة في اتباع يسوع الناجمة عن فهم عميق لدعوته هي التي توحي للشخص بالتخلي
وهذا التخلي غالبا ما يكون تدريجيا
كأنه تدريب على التخلي
عندما يندمج الشخص الذي كرس حياته لاتباع يسوع والتشبه به
في اتباع يسوع اندماجا كافيا
عندها يصبح التخلي أمرا طبيعيا أكثر منه تضحية أو فضيلة
الخوف أن تأخذ العنترية شابا يتوهم أنه سيضحي من أجل المسيح ويعيش هذا الوهم دون أن يكون لديه أساس انجيلي يرتكز عليه
لذلك فحكمة رؤساء الرهبانيات مطلوبة في التركيز على فهم الدعوة أكثر من التركيز على بطولة التخلي
إعجابإعجاب
الرغبة الصادقة في اتباع يسوع الناجمة عن فهم عميق لدعوته هي التي توحي للشخص بالتخلي
وهذا التخلي غالبا ما يكون تدريجيا
كأنه تدريب على التخلي
عندما يندمج الشخص الذي كرس حياته لاتباع يسوع والتشبه به
في اتباع يسوع اندماجا كافيا
عندها يصبح التخلي أمرا طبيعيا أكثر منه تضحية أو فضيلة
الخوف أن تأخذ العنترية شابا يتوهم أنه سيضحي من أجل المسيح ويعيش هذا الوهم دون أن يكون لديه أساس انجيلي يرتكز عليه
لذلك فحكمة رؤساء الرهبانيات مطلوبة في التركيز على فهم الدعوة أكثر من التركيز على بطولة التخلي
إعجابإعجاب