يومَ ابتعدَ الناسُ عَن تأمُّلِ الكتابِ المُقدَّس، حوَّلوا بعضَ آياتِهِ إلى أمثالٍ شعبيّةٍ، جرَّدوها مِن معناها الحقيقيّ، وحمَّلوها بعضَ ثقافَتِهم، علَّها تتماشى هي معَهُم، بدلَ أن يمشوا هُم في ضوئِها. مِن بينِ تلكَ الآياتِ ما قالَهُ يسوعُ، أنَّ “ما مِن خَفِيٍّ إِلاَّ سَيُظهَر، ولا مِن مَكتومٍ إلَّا سَيُعلَمُ ويُعلَن” (لو 8، 17؛ 12، 2)، الَّتي صارَت كالمثلِ الشعبيِّ الكثيرِ الترداد، يُعلِنُ رغبةَ قائلِهِ بانكشافِ حقيقةٍ زمنيّةٍ مُعيّنة.
اختارَت الذاكرةُ الشعبيّةُ هذهِ الآيةِ مِن دونِ سواها لأنَّ المعنى المُعطى لها يعكسُ ثقافةَ الفضائحيّةِ الراهنة. فالناسُ صارَت تشتهي انكشافَ ضعفِ الآخرينَ وزلَّاتِهم. يبحثونَ عن قباحاتِهم علَّهُم يتجَمَّلونَ بها. يعتقدونَ أنَّهُم بِمدِّ الأصابِعِ نحوَ الآخرينَ يرتفعون. وكأنَّ التشهيرَ باتَ فضيلةً يدَّعي فاعِلُهُ الإصلاحَ لينالَ التَكريم. ما أقبحَ طمعَ الشُهرةِ المُستَجِّدِ الَّذي شرَّعَ التشهيرَ وشجَّعَ عليه!
حمَّلَ الناسُ هذهِ الآيةِ ثقافةَ التشهيرِ البشعةِ البعيدةِ عَن روحِ المسيحيّة. راحوا يُردِّدونَها في أحاديثِهِم اليوميّةِ، لا حُبًّا بالحقيقة، بل رغبةً بالانتقامِ من ظالمٍ أو إذلالِ عدوّ. وكأنَّهُم يشتهونَ إلَهًا يمتلكونَهُ، يتحكَّمونَ برحمتِهِ، يسترُهُم متى احتاجوا ويُعرّي الآخرين متى أمروا.
إنَّما اللهُ محبّة، لا ظُلمَ فيهِ، بل عدلٌ وحقّ. لأجلِ محبَّتِهِ لنا شاءَ أن يستُرَ جميعَنا. فكَشَفَ لنا ذاتَهُ. لا يكشفُ الكاملُ الحقيقةَ ناقصة، ولا يكتفي الأزليُّ بكشفِ حقائقَ زمنيّة. اللهُ كاملٌ أزليّ. حضَّرنا بالأنبياء، ثُمَّ أرسَلَ ابنَهُ يسوعَ المسيح إلى العالمِ كاشفًا في الزَمنِ ذاكَ السرَّ الَّذي كانَ مخفيًّا قبلَ الدهور (أف 3، 9؛ 1 قور 2، 7). وأرسَلَ بعدَها الروحَ المُذكِّرَ، فاحصَ كُلِّ شيءٍ حتَّى أعماقِ الله (1 قور 2، 10)، ليُعلِّمَنا ويُفهِّمَنا كُلَّ شيءٍ، ويُبكِّتَنا إذا فضَّلنا الظلمةَ على النور.
الخفيُّ الَّذي يُظهَرُ هو يسوعُ إذَن. وظهورُهُ خلاصُ الجميع. هو النورُ المضيءُ على المنارةِ الَّذي يرتَفِعُ فيجذبُ إليهِ الجميع (يو 12، 32). هو النورُ الَّذي يكشِفُ لنا ضعفَنا وخطيئتَنا لنُدرِكَ كَم نحتاجُ إلى قوّتِهِ وبرِّهِ. هو النورُ الَّذي “جاءَ إِلى العالمِ ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّورِ لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النورَ فلا يُقبِلُ إِلى النورِ لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النورِ لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله” (يو 3، 19-21). هو النورُ الَّذي يجعلُ قابليهِ منائرَ، يُضيءُ نورُهُم قدّامَ الناس (مت 5، 16-17)، ويسطعونَ كالشمسِ في ملكوتِ أبيهِم (مت 13، 43).
لا يُمكنُ لأحدِهِم انتقاصُ قولِ يسوعَ وتحريفُهُ وتحويلُهُ إلى مَثَلٍ تافهٍ يُعبِّرُ عن ثقافةٍ فاسدةٍ سائدة. قولُهُ باعتلانِ كُلِّ خفيٍّ هو تبشيرٌ بخلاصِهِ الآتي إلى العالم، ودعوةٌ لمَن يسلِكُ دربَ الظُلمةِ لكَي يأتيَ إلى النورِ، ولِمَن يُميتُهُ الكَذِبُ لكَي يحيا في الحقّ.
اترك تعليقًا