“شيطنة” الآخرينَ وسيلةُ الإنسانِ لتبريرِ نفسِهِ. هكذا كانَ منذُ الحاجةِ إلى التبريرِ وما زالَ إلى الآن. هكذا كانَ مُذ رأى الإنسانُ ما فيهِ مِن عيوبٍ، فأرادَ أن يَستُرَها؛ بعيوبِ الآخرينَ يستُرُها. يكشِفُ عُريَهُم ليستُرَ عُريَهُ. يُذنِّبُهُم فيُبرِّرَ نفسَهُ. يُشيطِنُهُم فيؤَلِّهَ ذاتَهُ. وإذا لزِمَهُ الأمرُ، شَيطَنَ الله.
هكذا كانَ منذُ البدءِ. ذنَّبَ آدمُ حوَّاءَ لتبريرِ نفسِهِ، وذنَّبَ معها اللهَ الّذي خلقَها لهُ (تكوين 3، 12). وهكذا يكونُ في أيّامِنا. فيها صارَ العالمُ صغيرًا والتواصلُ سريعًا. صرنا جميعُنا عُراةً تحتَ الشمسِ. نتنازعُ الأغطيةَ من ورقِ التّينِ ونكشِفُ واحدُنا الآخرَ. تَسَلَّحْنا بالفضيحةِ. أصلَتْنَاها بوجوهِ الآخرينَ، وأصلَتْنَاها بوجهِ الله: أرَدْنا فَضحَهُم ليَلتهوا عن عُريِنا، وأرَدْنا قتلَهُ لئلّا نُفضَحَ في نورِهِ. “لأنَّ كلَّ من يَعمَلُ السيِّئاتِ يُبغِضُ النُّورَ، ولا يَأتي إِلى النُّورِ لئَلّا تُوَبَّخَ أعمالُه” (يوحنّا 3، 20).
هكذا كانَ في أيَّامِ يسوعَ. شيطَنَهُ كثيرون. منهُم الفرّيسيّونَ الّذينَ قالوا فيهِ أنَّهُ باسمِ بعل زبول، رئيسِ الشياطين، يُخرِجُ الشياطينَ (متّى 12، 24). فأولئِكَ فَشِلوا بفعلِ ما يقولون. أمّا يسوعُ فيفعلُ كما يقول، وصِدقُهُ كَشَفَ ريِاءَهُم. يَتَظاهَرونَ بالأعمالِ الصالحةِ ويعمَلونَها لينظُرَ الناسُ إليهم (متّى 23، 5). أمّا يسوعُ فصالحٌ، وبرُّهُ كشفَ فَسَادَهُم. شَيطنوهُ وأهلكوهُ ليُبرِّروا أنفُسَهُم أمامَ أبناءِ جيلِهم.
هكذا يكونُ أيضًا وأيضًا في أيّامِنا. كَثيرونَ يُشَيطِنونَ الله، بمعرفةٍ أو بغيرِ معرفة. يحمِّلونَهُ مسؤوليّةَ الشرورِ في العالمِ، كأنَّهُ يَفتعِلُ المآسيَ ويتلذَّذُ بأحزانِ الناسِ، فيُلقونَ عليهِ ذنبَ آثامِهم. وكثيرونَ يُنكِرونَهُ. فناكِرُ اللهِ مُرتاحُ البالِ والضميرِ في الدَّهرِ الحاليِّ. يُشبِهُ مَن يَحجُبُ بيديهِ النورَ عَن عينَيهِ ويُقنِعُ نفسَهُ أنَّه في الظُلِّ وأنَّ النورَ لَن يفضَحَهُ؛ ولأنَّه لا يرى، يؤمِنُ أنَّ الجميعَ عُميانُ، فيتفَلسَف!
هكذا كانَ ويكونُ، منذُ الحاجةِ إلى التبريرِ، كما قُلنا، وما أحوَجَنا جميعًا إلى التبريرِ! وما أحوَجَنا لنُدرِكَ كَم نحنُ محبوبونَ مِنَ الله. فلا حاجةَ للإنسانِ لأنْ يُبرِّر ذاتَهُ أمامَ الَّذي برَّرَنا بابنِهِ الوحيد. ذاكَ الّذي تعرَّى فوقَ الصليبِ ليُلبِسَ عُريَنا، حتّى إذا تَعرَّينا يومًا مِن ثوبِنا المنظورِ هذا، لا يُنزَعُ عنّا ثوبُ المسيحِ غيرِ المنظورِ الّذي ألبَسَنا إيّاه. واللهُ الّذي أرادَ تبريرَنا بابنِهِ الوحيد، وحَّدَ لاهوتَهُ بناسوتِنا وناسوتَنا بلاهوتِهِ. وإذا كانَت شيطنةُ اللهِ تبريرَ الإنسانِ لنفسهِ فتأليهُ الإنسانِ تَبريرُ الله لخلقِهِ.
لا حاجةَ لنا بعدَ الآنَ لشيطنةِ اللهِ دفاعًا عن أنفُسِنا، لأنَّهُ برَّرنا ممَّا فينا، وألبَسَ عُريَنا الحُلَّةَ الأولى، وجعلَ في أيدينا خاتمَ العهدِ، وفي أرجُلِنا حذاءَ الحُريّةِ، وأمرَ بذبحِ العجلِ المُثمَّنِ لنأكُلَ ونَفرحَ (لو 15، 22-23)، ودعانا لهُ أحبّاءَ لا عبيدَ (يوحنّا 15، 15). هكذا يكونُ، أنَّ مَن يُحبُّ الآخرَ يُبرِّرُهُ. ومَن ثبُتَ في محبّةِ اللهِ أحبَّ أخاهُ، وإلّا كانَ كاذبًا (1 يو 4، 20). ومَن أحبَّ أخاهُ سَتَرَ عُريَهُ لأنَّ المحَبَّةَ تَستُرُ جَمًّا مِنَ الخَطايا (1 بطرس 4، 8).
اترك تعليقًا