قبلَ الميلادِ وفيهِ وبعدَهُ

كانَت مريمُ عذراءً حينَ جاءَها الملاكُ مُبشِّرًا بحملِها العجائبيِّ. يشيرُ لوقا إلى بتوليَّتِها في مطلعِ سَردِهِ لأحداثِ البشارةِ[1]، وينقلُ لنا ما أجابَت بهِ رسولَ اللهِ مستغربةً: “كيفَ يكونُ لي هذا وأنا لا أعرفُ رجلًا؟”[2]. أمَّا الكنيسةُ فحفظَتِ التقليدَ القائلَ أنَّ مريمَ لبسَت بتولًا في الميلادِ أيضًا، وبعدَهُ. لذلكَ يدعو المسيحيُّون مريمَ “العذراءَ”، بإقرانِ الكلمةِ ب”ال” التعريفِ، اعترافًا بدوامِ بتوليَّتِها وامتيازِها بينَ الناسِ بالفضائل.

عرفتُ الكثيرَ مِن المُعلِّمِينَ أثناءَ سنواتِ دراستي اللَّاهوتيَّةِ، وتيقَّنتُ باكرًا أنَّ جميعَهُم ليسوا دائمًا على حقٍّ! أذكرُ يومَ قالَ لنا أحدُهُم أنَّ الاعتقادَ بدوامِ بتوليَّةِ مريمَ ثانويٌّ. شرحَ أنَّ الخلاصَ المُحقَّقَ بيسوعَ، لكونِهِ ابنَ اللهِ، لا يتأثَّرُ بحالِ أُمِّهِ البشريَّةِ. أكانَـت مريمُ عذراءً أم لا، يبقى يسوعُ المُخلِّصُ ونبقى نحنُ المُخلَّصونَ. قد تبدو نظريَّةٌ مِن هذا النوعِ مقنعةً، منطقيَّةً، مُغريةً لانقلابِها على مسلَّمٍ إيمانيٍّ موروثٍ.

مُخطئٌ هو طبعًا، لأنَّ الاعتقادَ بدوامِ بتوليَّةِ مريمَ جوهريٌّ، لارتباطِ سرِّها بسرِّ المسيحِ، ولما يكشِفُ مثالُها عن عملِهِ الخلاصيِّ في كلٍّ منَّا.

لا بُدَّ مِن التذكيرِ بدايةً أنَّ الطهرَ مِنَ اللهِ يأتي، لا مِنَ الإنسان. مريمُ عذراءٌ بنعمةِ اللهِ أوَّلًا، أمَّا أمانتُها وثباتُها بالنقاوةِ فجوابانِ لاحقان. بادرَ اللهُ وعصمَ مريمَ مِن كُلِّ دنسٍ مُذ حُبلَ بها وأهَّلَها لاستقبالِ الابنِ في حشاها. ثُمَّ حفظَ بتوليَّتَها في الميلادِ. يرتبطُ هذا السرُّ بشخصِ المسيحِ، كمالِ الطهرِ، الَّذي يُقدِّسُ ولا يُدنِّسُ. ونعمةُ الطهرِ الَّتي يهبُها الأبديُّ أبديَّةٌ. فالإيمانُ بألوهيِّةِ المسيحِ يعني حتمًا الإيمانَ بدوامِ بتوليَّةِ مريمَ. والحقيقةُ الأخيرةُ تكشفُ الأولى وتثبتُها.

هذا لا يعني أنَّ لا فضلَ لمريمَ في الحفاظِ على طهرِها. قالَت “نعم” وظلَّت أمينةً للنعمةِ الَّتي وُهبَت لها. فجوابُ الإنسانِ أساسيٌّ طبعًا، لكنَّ المبادرةَ الإلهيَّةَ سابقةٌ دائمًا.

أمَّا في شأنِ الخلاصِ المحقَّقِ في كُلٍّ منَّا، يؤكِّدُ الإيمانُ بدوامِ بتوليَّةِ مريمَ أنَّ اللهَ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، يجعلُ مِنَّا “عذارى” مهما كانَت حالُنا قبلَ اللِّقاءِ بهِ. شاءَ اللهُ أن يبرِّرَ كُلًّا مِنَّا، فجعلَنا مُقَّدسينَ بابنِهِ يسوعَ المسيحِ. فقَد ولَدَنا بالنعمةِ مِن جديدٍ لأنَّهُ ليسَ عليهِ أمرٌ مُستحيلٌ. ومبادرةُ اللهِ الأزليِّ دائمةٌ، تُعيدُنا “بتولينَ” متى عُدنا إليهِ.

حفِظَ اللهُ مريمَ بتولًا قبلَ الميلادِ وفيهِ وبعدَهُ، ويبادرُ اليومَ نحوَ كُلٍّ مِنَّا. ما كُنَّا قبلَ اللِّقاءِ بهِ لا يهُمُّ، فهو قادرٌ أن يُطهِّرنا. يبقى علينا أن نقبلَ كما مريمَ  ونتمثَّلَ بها ثابتينَ في الطهرِ. فلنتذكَّرْ أنَّ مَن يقتدي بمريمَ في الأرضِ ينالُ حظَّها في السماء.  


[1] لوقا 1، 27.

[2] لوقا 1، 34.

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑