يبدو لي أنّ أزمات عالمنا المُعاصر تنبعُ من رفض الإنسان لحقيقة الموت. فالإنسان اليوم في سعيٍ دائمٍ، وإن لا إراديّ، للتنكُّر لما ينتظرُهُ يومًا ما، ليحصدَ روحه. وبعضنا يتجاسرُ في حربٍ إراديّة على الموت، يحاول فيها بشتّى الطرق أن يتفاداه، إمّا بالتوكّل على العلم، أو المال، أو السلطة، أو الدّين، فتصير كلّها، أسلحةَ دفاعٍ ضعيفة نتستّر خلفها، كطفلٍ يحتمي بشرشف سريره من عبثيّة القذائف.
لا للموت
يأتي الفكر الرأسمالي الحرّ كتتويجٍ لفلسفة رفض الموت، إذ يعطي الحقّ للفرد بالتسلّط على العدد الأكبر من الممتلكات، علّه يشتري لنفسه سنوات يضيفُها إلى عمره. وإن ماتَ، فثروتُهُ لن تموت، فتؤمّن لاسمه الاستمرار بعد غيابه. وكأنّ للمال الخلود وللنفس الفناء. تلك الرغبةُ الجامحة بجمعِ الثروات تُسقِطُ الإنسان بجشعٍ، باتَ المسؤول الأوّل عن الحروب والمجاعات واللّا عدالة، والتلوّث، والفساد، والانحرافات الأخلاقيّة. بتعبيرٍ آخر، صارت الرغبة بعدم الموت سببُ موت الكثيرين.
حتّى التَديُّن المُفرط ينبع أحيانًا من خوفٍ من النهاية وليس من حبٍّ صادقٍ لله. فترى الكثيرين ينتهجون الإدمان على الدّين، علّهم يشترون العمر المديد ويتجنّبون الموت المفاجئ. أو يبحثون في الدّين عن أملٍ في حياةٍ ثانية، فلا تغفلُ أيّ ديانةٍ معروفةٍ عن تقديم فلسفةٍ للحياة بعد الموت، تقدّم فيها للمعتقدين بها ما يبحثون عنه من إجابات.
في النهاية، حربُنا على الموت باطلة. أموالنا وسياساتنا، أشياؤنا ونفوذنا، كلّها باطلة. لأنّ كلّ ما هو تحت الشمس باطل. فمهما عظُم شأن الإنسان، يتساوى أمام الموت مع الجميع. مهما هرب من الموت، سيدخلُ النعشَ يومًا، ويُكتبُ فيه الرثاء، وتعلّق نعواه في الطرقات. كائنٌ من كان، “الدفن الساعة ثلاثة”.
نعم للموت
قد يكونُ المقطع الأوّل مُحبطًا بعض الشيء. لكن لا بدّ للإنسان أن يُدركَ حدوده، ولا بدّ للواقع أن يجد سبيله إلى منطقنا. أن يكون الموت أمامنا في كلّ حين، يساعدُنا على اكتشاف معنىً للحياة الحقّة. فإذا رأيتَ الموتَ يُدركُكَ، تَرَكَتكَ الحياةُ تُدركها.
إن لم يكُن للأشياء نهاية، لما حَمَلَتْ أيّ معنى. فهذا الأخير يتجلّى في النهايات. فلن نسمح بعد اليوم لعالمٍ فاسدٍ أن يغرينا بالخلود، فلا يسمح لنا أن نحيا الحياة بملئها. لن نسمحَ لهُ أن يغرينا بكلّ شيء، لكي يُفقدَنا كلّ شيء. ليس الموتُ نقيض الحياة، بل ملئَها.
وإن تديّنا فلن يكون ذلك خوفًا من الموت، بل قبولًا له. لن يكون خوفًا من نهايةٍ وراء النهاية، بل عشقًا لإلهٍ يتجلّى في تفاصيل الحياة اليوميّة.
فلنمُت كما يجب
سنموت حتمًا، فلنمُت كما يجب. كلّ شيءٍ في عالمنا خاضعٌ للتغيّرات، وحده الموت ثابت. كلّه افتراضات، وحده الموت أكيد. لأنّه يأتي لا محال. كان لا بدّ لي أن أذكّركم اليوم، علّنا نُضيفُ بعض الحياة لأيّامنا، لعائلاتنا، لوطننا. علّنا لا نعيش من قلّة الموت. الحياةُ مبدأُ الموت، والموت صيرورة الحياة.