لم تكن تعلم يوم خبّأت حقيقة ما جرى معك وأخفيتهُ بكذبة صغيرة، أنّ تلك الكذبة ستُدخلكُ دوّامةً تُقلقُ لك عيشك في المستقبل. فكلّ كذبة تستدعي أخرى لاحقة لتستُرَ السابقة، فيغزلَ بها الكذّاب حبل كذبه، الذي مهما طال، بقي قصيرًا وانتهى. وحين يذوب الثلج يبينُ المرج. استمر في القراءة “حبل الكذب قصير”
لماذا المعموديّة في الرعيّة؟
بعد الحرب اللُبنانيّة وما جاءت به من تبدّلات ديموغرافيّة، دخل المسيحيّون في فوضى عيش الأسرار بعيدًا عن الرعيّة، لأسبابٍ كثيرة، أبرزُها صعوبة الوصول إلى رعيّة الأصل. فاعتاد المسيحيّون طيلة أربعة عقود، قبول سرّ العماد مثلًا، أينما أرادوا، دون الرجوع إلى رعيّتهم أو حتّى إلى مرجعهم الديني المحلّي. استمر في القراءة “لماذا المعموديّة في الرعيّة؟”
“فنجان قهوة وحكي عالنّاس”
كانت “أم طوني” تُجالس “كريمة” على شُرفة المنزل، تحتسيان القهوة وتتحادثان بأمور الحياة وفلسفاتها، حين مرّت جارتهما “سيدة” في الطريق. وكما يومضُ البرقُ في أفقٍ ويتألّق في آخر، هكذا صارت “سيدة” محور حديثِ جارتَيها، اللّتانِ فصّلتا أخبارها وفنّدتاها باحترافٍ لبنانيٍّ موصوف. وما هي ساعتان مضتا، حتّى غادرت “كريمة”، وحضرت مكانها “سيدة”. كانت تلكَ الأخيرة تحملُ في عبّها روايات “كريمة” وآخر أخبارها، فشلحتها فوق طاولةِ الحوار، وتداولتها مع نظيرتها، وتودّعتا بعد ساعتين مُضنيتين من المناقشات والمناوشات. استمر في القراءة ““فنجان قهوة وحكي عالنّاس””
ممارسة النذور تحت المجهر
كان طوني قد بلغ من العمر سنتين وكان قد تأخّر عن أترابه في النُطق، ممّا أقلق أهله ودفع بهم إلى زيارة الطبيب. طمأنهم هذا الأخير وطلب منهم التريّث. لكّن جدّته لها في الحياة الخبرة الطويلة، فلم ترضَ بإرشادات أهل العلم. بل “نذرت” طوني إلى مار عبدا، وما هي أشهر قليلة حتّى تلفّظ بالكلمات الأولى. لمّا بلغ رُشده، فاتحته جدّته بما أخفته عنه لمّا كان فتيًّا، أنّه وَجُبَ عليه شخصيًّا، أن يسير حافيّا من منزله الكائنِ في أنطلياس إلى دير مار عبدا “المشمّر” في بلدة زكريت اللبنانيّة، إيفاءً للنذر، تجنّبًا لغضب مار عبدا المُحتمل. استمر في القراءة “ممارسة النذور تحت المجهر”
المسامحة طريقٌ إلى الشفاء
كثيرًا ما نختبرُ جراحًا سبّبها آخرون، تطبعُ مسير حياتنا، تلاحقُنا كالطيف، وغالبًا ما تمنعُنا من المضيّ قُدُمًا في سبيل الفرح الذي دُعينا إليه. ولنَكُن أكثر واقعيّة، كلُّنا، دون أي استثناء، كنّا يومًا ما ضحيّة الآخرين. لكنّ اختبار الواحد يختلفُ عن اختبار الآخر تبعًا لعوامل كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، شخصيّة الضحيّة وحالته النفسيّة من ناحيةٍ، وحجم الإساءة ووقعها من ناحيةٍ أخرى.
لماذا التبخير؟
أخرجُ من منزلي الكائنِ وسط سوقٍ تجاريٍّ في كلِّ صباح، وأمرّ في المحال التجاريّة المزروعة إلى شمالي ويميني، وأرى على أعتابها مباخرَ ما زال الجمرُ فيها متّقدًا. ألتفتُ إلى أحدِ المتاجر، فأرى البائعَ يحملُ المبخرة العابقة بالبخور، يدور في الزوايا، يحرصُ على مباركة البضائعِ كلّها.
وأنا على عادتي أسائلُ كلّ شيء. أسائلُ نفسي، وأسائلُ الآخرين، وأسائلُ الله. فهذا حقّي. فقرّرت فيما يلي أن أسائل تلك المباخر المرصوفة في طريقي، أن أحاور عطورها علّها تُفهمني ما تقول، أن أتقصّى كالعادة من أين جاءَتنا، وإلى أين تُمضينا معها.
الزواج أوّله عسل وآخره بصل
غالبًا ما تبدأُ رحلةُ الزواج بعد قصّة حبٍّ تُحاكي قصص هوليود، لتمُرّ بعدها بأزماتٍ كثيرة، تهدّد الزواج أحيانًا بالانهيار. فتعكسُ الأمثلةُ الشعبيّةُ الفكاهيّةُ التي تُقال في الزواج واقعًا أليمًا، لا بدّ من التوقُفِ عليه، سيّما أنّ نسبة الطلاق في الآونةِ الأخيرة إلى تزايُد. هذا لا يعني، كما هو شائعٌ، أنّ زيجات الماضي كانت أنجح. فالحُزنُ في الزواج قديمُ العهدِ: في الماضي، غُضّ الطَرف عنه لأنّ المجتمع مَقتَ الطلاق، أمّا اليوم فصارت المجتمعاتُ أكثرَ تحرّرًا، تسمحُ لمن حَزِنَ في زواجه أن يخرُجَ عن صمته.
الدفن الساعة ثلاثة
يبدو لي أنّ أزمات عالمنا المُعاصر تنبعُ من رفض الإنسان لحقيقة الموت. فالإنسان اليوم في سعيٍ دائمٍ، وإن لا إراديّ، للتنكُّر لما ينتظرُهُ يومًا ما، ليحصدَ روحه. وبعضنا يتجاسرُ في حربٍ إراديّة على الموت، يحاول فيها بشتّى الطرق أن يتفاداه، إمّا بالتوكّل على العلم، أو المال، أو السلطة، أو الدّين، فتصير كلّها، أسلحةَ دفاعٍ ضعيفة نتستّر خلفها، كطفلٍ يحتمي بشرشف سريره من عبثيّة القذائف.
لا للموت
يأتي الفكر الرأسمالي الحرّ كتتويجٍ لفلسفة رفض الموت، إذ يعطي الحقّ للفرد بالتسلّط على العدد الأكبر من الممتلكات، علّه يشتري لنفسه سنوات يضيفُها إلى عمره. وإن ماتَ، فثروتُهُ لن تموت، فتؤمّن لاسمه الاستمرار بعد غيابه. وكأنّ للمال الخلود وللنفس الفناء. تلك الرغبةُ الجامحة بجمعِ الثروات تُسقِطُ الإنسان بجشعٍ، باتَ المسؤول الأوّل عن الحروب والمجاعات واللّا عدالة، والتلوّث، والفساد، والانحرافات الأخلاقيّة. بتعبيرٍ آخر، صارت الرغبة بعدم الموت سببُ موت الكثيرين.
حتّى التَديُّن المُفرط ينبع أحيانًا من خوفٍ من النهاية وليس من حبٍّ صادقٍ لله. فترى الكثيرين ينتهجون الإدمان على الدّين، علّهم يشترون العمر المديد ويتجنّبون الموت المفاجئ. أو يبحثون في الدّين عن أملٍ في حياةٍ ثانية، فلا تغفلُ أيّ ديانةٍ معروفةٍ عن تقديم فلسفةٍ للحياة بعد الموت، تقدّم فيها للمعتقدين بها ما يبحثون عنه من إجابات.
في النهاية، حربُنا على الموت باطلة. أموالنا وسياساتنا، أشياؤنا ونفوذنا، كلّها باطلة. لأنّ كلّ ما هو تحت الشمس باطل. فمهما عظُم شأن الإنسان، يتساوى أمام الموت مع الجميع. مهما هرب من الموت، سيدخلُ النعشَ يومًا، ويُكتبُ فيه الرثاء، وتعلّق نعواه في الطرقات. كائنٌ من كان، “الدفن الساعة ثلاثة”.
نعم للموت
قد يكونُ المقطع الأوّل مُحبطًا بعض الشيء. لكن لا بدّ للإنسان أن يُدركَ حدوده، ولا بدّ للواقع أن يجد سبيله إلى منطقنا. أن يكون الموت أمامنا في كلّ حين، يساعدُنا على اكتشاف معنىً للحياة الحقّة. فإذا رأيتَ الموتَ يُدركُكَ، تَرَكَتكَ الحياةُ تُدركها.
إن لم يكُن للأشياء نهاية، لما حَمَلَتْ أيّ معنى. فهذا الأخير يتجلّى في النهايات. فلن نسمح بعد اليوم لعالمٍ فاسدٍ أن يغرينا بالخلود، فلا يسمح لنا أن نحيا الحياة بملئها. لن نسمحَ لهُ أن يغرينا بكلّ شيء، لكي يُفقدَنا كلّ شيء. ليس الموتُ نقيض الحياة، بل ملئَها.
وإن تديّنا فلن يكون ذلك خوفًا من الموت، بل قبولًا له. لن يكون خوفًا من نهايةٍ وراء النهاية، بل عشقًا لإلهٍ يتجلّى في تفاصيل الحياة اليوميّة.
فلنمُت كما يجب
سنموت حتمًا، فلنمُت كما يجب. كلّ شيءٍ في عالمنا خاضعٌ للتغيّرات، وحده الموت ثابت. كلّه افتراضات، وحده الموت أكيد. لأنّه يأتي لا محال. كان لا بدّ لي أن أذكّركم اليوم، علّنا نُضيفُ بعض الحياة لأيّامنا، لعائلاتنا، لوطننا. علّنا لا نعيش من قلّة الموت. الحياةُ مبدأُ الموت، والموت صيرورة الحياة.
المسبّة بوقتها صلاة
المسبّة بوقتها صلاة
هي الظاهرةُ الصادمة التي تجتاحُنا من حيثُ لا ندري وقد اغتَصَبَت شرعيّتها لكثرة ما اعتدناها. فها هي في مطلعِ كلامِ كلُّ ابنِ آدم، من الثانيةِ حتّى الثانيةِ بعدَ المئة، وكأنّها صارت هي الحضارة، وهي تعبيرُ شعبِنا عن ذاته. لا أدري من أينَ جاءَتنا فوضى السُباب هذه بالتحديد، لكنّها باتت مُنذرة بخللٍ نفسيٍّ عام يستدعي التَفكيرَ العميق. فكيفَ لنا السكوتَ عَن مُجتمعٍ، أعلنَ براءةَ الشتيمةِ كلَّ ما احتاج إليها قائلًا : “المسبّة بوقتها صلاة”.
فتَحَت بعضُ الأغنياتِ الغربيّةِ الحديثة بكلماتِها بابَ السماحِ لتجريدِ الكلمةِ من قيمتها، كما أسهمَ الإعلامُ الساخرُ في السنواتِ الأخيرةِ بتطويعِ الآذانِ لتتآلفَ مع المستوى الكلاميّ المتدنّي. فصارت الكلمةُ البذيئة عاديّةً يقبلُها المُجتمع ويتبنّاها، فلا ينزعجُ من سماعها، وكأنّ معيار التمييز فيه قد فُقد. فلا نجدنَّ من يمنع الأولاد من التلفّظ بالسُباب، بل من يصفّق لهم ويُفاخر بهم، كونه أورثهم ثقافَتَهُ المنحطّة.
القتل بالكلمات
أعتقدُ أنَّ بعضَ الكلماتِ، في كلِّ اللغّات، وإن أشارَتْ إلى معنى إيجابيّ محدَّد، أو إلى أمرٍ طبيعيّ، يُحمّلُها المجتمعُ معنى غالبًا ما يكونُ سلبيًّا، لتصيرَ أداةَ إهانةٍ وشتمٍ. فليست المُشكلة بالكلمةِ في ذاتها، بل بالمعنى الذي نُحمِّلُها، وبالرغبةِ القلبيّةِ بإهانةِ الآخرين. وفي عظةِ يسوعَ على جبلِ التطويبات أعلنَ صراحةً أنّ من قالَ لأخيهِ يا جاهل، كانت خطيئته كالقتل، واستوجَبَ نارَ جهنّم (متّى 5، 21-22).
الإناءُ ينضحُ بما فيه
أمّا سببُ اعتيادِ الألسنةِ على التلفّظِ بالسبابِ بكلِّ راحةِ ضميرٍ فهو لأنَّ الإناءَ ينضحُ بما فيه. فإذا انتميتَ إلى بيئةٍ كثُرَت فيها الشتائم، أصبحتُ بدوري أنا شتّام، لأنّ عقلي يخزِّنُ الكلامَ البذيء، ويُفرغُ مخزونه عند أوّل فورة غضبٍ. أمّا العقلُ النظيف، الذي اختزن كلامَ البركة، فلا يُمكنُهُ إلّا أن يبارك. فصونُ اللسان يكونُ أوّلًا بتحصينِ الأذن. فلا نخجلنَّ من منعِ الناسِ بالتلفّظ بالشائنات، وإن كان بهدفِ المُزاح، حفاظًا على طهارةِ الأذنِ والقلب، فارضينَ حولنَا هالةَ احترامٍ لا تُمكِّنُ أحدًا من اختراقها.
وحدها الصلاة في وقتها صلاة
وفي الختامِ، ومن أجلِ تحسينِ المستوى الكلاميّ العام، تقعُ المسؤوليّةُ على عاتِقِنا جميعًا. على المؤسّسات الإعلاميّة أن تعيَ دورَهَا في تأليفِ المجتمعِ وتطويرِهِ فكرًا وتعبيرًا. كما على المؤسّساتِ التربويّة العملَ بجديّة على صَقلِ المستوى الكلاميّ بين الطلّاب. وللأهلِ الدور الفاعلِ في توعيّةِ أولادهم وتقديمِ المَثَلِ الصالح أمامهم. لكنَّ التغييرَ يبدأُ مِن أسفلِ الهرمِ، فلنبدأ في أنفُسنا. فليتَك يا قارئي العزيز، تُحاولُ أن تحوِّل ما فيكَ من كلام، أو أن تحوِّلَ البيئة من حولك.
“المسبّة بوقتها صلاة”. طبعًا لا، فلا وقتَ لها أبدًا. في كلّ وقتٍ مقيتةٌ هي. وحدها الصلاة في وقتها صلاة، فامتلء منها لتصيرَ كلماتُك كلُّها صلاة.
هل نعمةُ الله غبيّة؟
شاهدتُ منذُ مدّةٍ قصيرةٍ تمثيليّةً من إبداعات بِدع أميركا العظيمة، تتناولُ موضوعَ الدينونةِ والمثولِ أمام المسيح، بأسلوبٍ أرادَه المخرجُ محبّبًا، فأنتَجَهُ هزيلًا هزليًّا. والغريبُ أنّ بعض معلّمي التعليم المسيحي يستخدمونَ هذا الفيلم في صفوفِ الدراسة الثانويّة ليتّعظَ الطلّابَ من “لاهوته العميق ومعانيه المدُهشة”. استمر في القراءة “هل نعمةُ الله غبيّة؟”