صحراءٌ بلا زمن

ليسَت هذهِ صحرائيَ الأولى. مُذ قلتُ لكَ أنَّني أتبعُكَ حيثُ تَمضي، وأنا كثيرُ الترحالِ، لا أحمِلُ إلَّاكَ في سفري، أم بالحريِّ تحمِلُني أنتَ، وتسيرُ بي ارتفاعًا، نحوَ المُعَدِّ مِن أجلي، أنا غيرِ المُستحقّ. وفي طريقِنا ارتفاعًا، طالما عرَّجتَ بي إلى أماكنَ خاليةٍ لتُخاطبَ قلبي. هُناكَ، حيثُ لا ضبابَ يُغشِّي البصرَ، ولا ضجيجَ يُشوِّشُ السمعَ، تتجلَّى أنتَ لأعرفَ أنا وأفهمَ، فأُحبّ. استمر في القراءة “صحراءٌ بلا زمن”

فليكُنْ صليبُكَ حارسًا لي!

يا مَن خُلِقَ كُلُّ شيءٍ بِهِ،
ها إنَّكَ مَصلوبٌ،
صَلَبَهُ الخَلقُ على مخلوقٍ،
فجدَّدَ بصلبِهِ الخَلقَ الصالِبَ،
وجعلَ المخلوقَ الّذي صُلِبَ عليهِ
أداةَ خلاصٍ لمَن قتلوهُ بصلبِهِ.

شئتَ بحُبِّكَ أن تمحوَ الآثام،
ما اقتُرِفَ قبلَك،
وما قَد يُقتَرَفُ بعدَك،
لأنَّ حُبَّكَ أوسعُ مِن الأيّام.
شئتَ بحُبِّكَ أن تمنحَ الحياة،
عوضًا عَن ميتةٍ ذُقتَها وحدَك،
عن جميعِنا،
ومِن أجلِ جميعِنا،
فلا يموت أحدٌ بَعدَك،
بَل تكون لجميعنِا وافرةٌ الحياة.

شئتَ أن تَحمِلَ في جَسَدِكَ،
ما كانَ لأجسادِنا مِن تمزُّقٍ،
استحققناهُ لأجلِ مُراقصتِنا الشياطين،
وما كان لأجسادِنا مِن تعرُّقٍ،
استحققناهُ لأجلِ تمرُّدِنا على الوصيّة،
وطاعتِنا أضاليلَ الثعابين.
فلَحَمْتَ بجُرحِكَ جِراحَاتنا العصيّةَ،
وجمعَتَ شَتاتَنا في جَسَدِكَ.

شئتَ أن تكونَ آخِرَ المصلوبين،
وألّا تُقرَّبَ بَعدَكَ أيُّ أُضحِيّة.
إسَتسلمتَ وديعًا صامتًا لأيدي الصالبين،
فأمسَيتَ باكورةَ الراقدين،
وأصبَحتَ رأسَ القائمين،
تمنحُ بقيامَتِكَ الحياةَ الأبديّة.

فيا مانِحَ الحياةِ لفاقِديها،
ومُعطي العطايا لسائليها،
شئتَ أنتَ وحقّقتَ،
وشئتُ أنا فتقّربتُ،
هبني ألّا أترُكَ الحياةَ الّتي مِنكَ،
وألّا أبحَثَ خارجًا عَنكَ،
وليكُنْ صليبُكَ حارسًا لي!

مِن حيثُ أنا إلى حيثُ أنتَ

وأنا ساجدٌ أمامكَ،
تتّقِدُ فيَّ رغبةٌ،
هي الأصدقُ بينَ رغائبي.
أظنّها رغبتي الحقيقيّةُ الوحيدة،
أن تندثِرَ المسافةُ بينَكَ وبيني،
وأن ينتهي زمنُ الانتظار.
هي رغبتي الحقيقيّةُ الوحيدة،
أن أتّحِدَ بكَ.

رغبتي هذه هي مِنكَ،
تقبِضُ عليَّ وتجذُبُني إلَيك.
تتأصّلُ في أجزائي،
فتندفعُ جميعُها إليك.
كُلُّ ما فيّ يعرِفُ أنّكَ أصلُهُ،
ويحنُّ إليك.
أمّا تِلكَ اللمساتُ الخفيفةُ الّتي لمستنيها،
فجعَلْتَني أكثرَ شوقًا إلَيك.

ها عيناي،
لمستَهُما بأصابِعِك على طريق أريحا،
وغسلتهما بطينِ الخلقِ،
كي تُبصرا،
فأبصرتا وجهَكَ القدّوس.
كما تُبصَرُ الأشياءُ في المرآة،
أبصرتا،
وتنتظرانِ أن تتأمّلاكَ وجهًا لوجهٍ.

ها شفتايَ،
أحرقْتَهُما بجمرَتِكَ.
وتبارَكَتا بلثمِ قدمَيكَ في منزِلِ سمعان الفرّيسي.
ولساني قَد ذاقَ ما أطيَبَكَ،
يا خُبزَ الحياة،
النازل مِن السماءِ قوتًا لا يفنى.

ها أذُنايَ،
أزلتَ عنهُما علَّتَهُما
في أرضِ الوثنيّين،
فسمعَتا نداءَك
يقودُني إلى المراعي الخصيبة،
أيُّها الراعي الصالِح.

ها يداي،
تشبَّثْتَ بهما وأنا أغرقُ في بُحيرةِ طبريّا،
فانتشلتَني إلى الحياة.
لمستا طرَفَ ردائكَ،
حينَ كُنتَ في طريقِكَ إلى بيتِ يئيرُس،
واستمدَّتا مِنكَ القوّة،
فوقفَ نزفُ دمي.
وأصابعي خطّتَ جراحَكَ فوقَ جسدِكَ،
في العليّةِ حينَ جئتنا قائمًا، ظافرًا،
فأعلنتُكَ: “ربّي وإلهي”.

جميعُ حواسي،
لأجلِ نزولِكَ إليها،
تتوقُ للارتقاءِ إليك.
جميعُ حواسي،
لأجلِ افتقادِكَ لها،
تحملُ فيها رغبتي الصادقة بالاتّحادِ الكاملِ بكَ.

جميعُ حواسي لَم تعُد كافيّة.
استجِب رغبتي،
الآنَ،
فلينتهي الزمان،
ولتأخُذني مِن حيثُ أنا إلى حيثُ أنت.

لقاءٌ في البَعيد

كتَبتُ مُنذُ زمنٍ صلاةً عُنوانُها “دَعني أرحَل“.
في الأمسِ، عُدتُ إلَيها، أو رُبَّما أُعِدتُ إلَيها.
قرأتُها، صلَّيتُها، صلَّيتُ الزَمَنَ الّذي تلاها، وقرّرتُ أن أكتُبَ عَن لقائي بعدَ الرحيل،
عَن ذاكَ اللقاء في البعيد.

ربِّ،
في الماضي،
في أمسٍ ليسَ بالبعيد،
سَرَقَتْني الأفكارُ مِن انشغالاتي اليوميّة.
تبِعتُها،
واستسلمتُ لها.
أوقَدَتْ فيَّ رغبةً لَم أعرِفها مِن قبل،
فَرُحتُ أكتُبُها لكَ:

استمر في القراءة “لقاءٌ في البَعيد”

حنينٌ إلى الحُبِّ الأوَّل

تعودُ بي إلى لقاءَاتِنا الأولى،
يومَ كُنتُ لا أزالُ صغيرا…
وما أعظَمَ حنيني لأن أعودَ صغيرا!

يومَها،
لَم أكُن أعرِفُ في الصلاةِ مَدرَسةً،
بَل كانَت روحي فقيرة؛
ولَم أكُن أعرِفُ في العلمِ فلسفةً،
لكنَّكَ جَعَلتني بصيرا،
وأرَيتني مِن مجدِكَ حقيقةً،
فقرّرتُ مِن أجلِهِ المسيرَا.

وأنا أمشي،
إذا تَعبتُ،
إذا انكسرتُ،
إذا ضلَلتُ،
تعودُ بي إلى لقاءَاتِنا الأولى.

تعودُ بي إلى لقاءَاتِنا الأولى،
يومَ كُنتُ لا أزالُ صغيرا…
يومَ اكتَشَفتُ أنَّني أُحبُّكَ،
قبلَ كُلِّ شيءٍ وأكثرَ مِن أيِّ شيءٍ،
أُحبُّكَ…

تعودُ بي إلى لقاءَاتِنا الأولى،
وأنا ما أنا اليوم،
بفضلِ لقاءَاتِنا الأولى،
ومِن أجلِ لقاءَاتِنا الأولى.
هُناكَ اشتعلَتِ الرغبةُ فيَّ،
بأن أعرفكَ وأُحِبَّكَ.
وهُناك ولِدَت فيَّ الذكرى،
أنّني رغبتُ بأن أعرِفَك وأُحِبَّكَ.

في لقاءَاتِنا الأولى،
طعمٌ مِن لقائِنا الأخير…
حنيني إلى لقاءَاتِنا الأولى،
صارَ شوقًا للّقاءِ الأخير.
فاجعلني يا ربُّ أمينًا لحنيني،
لشوقي إليك،
أنت الحُبُّ الأوَّل،
والأخير.

نشيدُ العودة

هَل أعودُ بعدَ الرحيل؟
في الماضي اخترتُ الرحيلا.
هَل أجدُ لي في البيتِ مكان؟
دربُ العودةِ
يبدو طويلا،
صعبٌ، مرصوفٌ أحزان.

كيفَ آتيكَ؟
ألا أخجَل؟
عَبدتُ نَفسيَ والأوثان.
كيفَ أُناديكَ؟
أقولُ أبانا؟
لستُ ابنَكَ بعدَ الآن.

لكنَّ صوتَكَ يُناديني لأقومَ
وأنسى ماضيَّ،
وأسير.
وأرمي عَنّي ردائي،
فلا يَصعُبَ عليّ المَسير.
وأسير.
وتُناديني،
لأُسكِتَ في نَفسي دائي،
ووجَعي،
فلا يمنعاني أن أسير.
وأصير،
حيثُ وعدتَني،
حيثُ عزائي،
وهنائي.
حيثُ تُقيم.
فأقومُ،
وأسير.

أجِدُكَ على البابِ،
مُرتقبًا،
مُنتظِرًا،
تتألَّمُ شوقًا.
وما إن تراني حتّى تفرَح،
أبوابَ بيتِكَ تَفتَح،
وتُعيِّد رَجعَتي عَن تيهي،
تهليلا،
ونشيدُ عودتي تُغنّيهِ،
تَقبيلا.

حينَ عُدتُ إليكَ يا إلهي،
أنتَ أنشدتَ عودتي،
وأعدتَ إليَّ بنوَّتي…

نَعبُرُ إلَيك

ماذا كُنَّا لولا انتصارِكَ؟
لكانَ الموتُ عدوًّا لنا،
نخافُهُ،
ومِن شدّةِ خوفِنا نعبُدُهُ.
لكُنَّا متى بلغناهُ زِلنا،
ولكانَ العدمُ يحصُدُنا.
أمّا أنتَ بقيامَتِكَ،
فجعَلتَهُ عبورًا إلى ديارِكَ.

لا حياةَ مِن دونِ إله.
لا حياةَ مِن دونِ إلهٍ يُعطي الحياة.
لا حياةَ مِن دونِ إلهٍ يموت،
ليُعيدَ إلينا الحياة.

ماذا كُنّا لولا انتصارِكَ؟
بكّاؤونَ، ندّابون،
على أنفُسِهِم ينتَحِبون،
يمضونَ العُمرَ يتودَّعون.
أمّا أنتَ بقيامَتِكَ،
فجَعَلتَنا أبناءَ رجاء؛
يفرحون.
يؤمِنون فيفرحون.
في جسدٍ واحدٍ يَتَّحِدون:
جَسَدِكَ،
فلا ينفصلون.

بهذا الرجاء
نذكُرُ اليوم مَن انفَصَلوا عنّا،
مَن تَرَكوا الأرضَ وعَبروا إلى السماء،
مَن تَركوا الحياةَ وعَبروا إلى الحياة.
أقِمهُم حيثُ وَعدتَنا،
في المَلَكوت الّذي أعدَدتَهُ لنا.

وإذا تألَّمنا لغيابِهِم،
وتألَّمنا حتَّى شَكَكنا،
وتألّمنا حتَّى نَسينا الرجاء،
أعطِنا مِن لدُنكَ العزاء،
يا سيّدَ العَزاء.
آمين.

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑