الويلُ لمَن استوجبَ الويلَ مِن فمِ يسوعَ بالذَّات! الويلُ للفرِّيسيِّينَ الملعونينَ لأنَّ نفوسَهُم مُنقسِمةٌ بينَ ظاهرٍ طاهرٍ يدَّعونَهُ أمامَ الناسِ وباطنٍ يَخفونَهُ امتلأَ رياءً وإثمًا. يُطهِّرونَ ظاهرَ الكأسِ والصَّحنِ وداخلُهُما ممتلئٌ مِن حصيلةِ النهبِ والطَّمعِ. يُشبهونَ القبورَ المُكلَّسةَ، ظاهرُها جميلٌ وأمَّا داخِلُها فممتلئٌ مِن عظامِ الموتى وكُلِّ نجاسةٍ[1]. الويلُ لمَن شابهَهُم وانشطرَ نصفَينِ بينَ باطنٍ يُكتَمُ وظاهرٍ يُعلَنُ! الويلُ لهم ولمَن شابهَهُم، لأنَّهُم مائتونَ ويُميتونَ! يسوِّدونَ وجوهَ مَن خالفَهُم مِن أجلِ تَبييضِ وجوهِهم، ويُميتونَ البارَ لألَّا يفضحَ موتَ نفوسِهِم وفسادَها.
هذا الانقسامُ الفرِّيسيُّ على الذَّاتِ هو وليدُ الخطيئةِ. يعودُ أصلُهُ إلى البداياتِ، يومَ تمرَّدَ الإنسانُ على اللهِ. أدركَ الإنسانُ المُتمرِّدُ حينَها أنَّهُ عُريانٌ. رأى في ظاهرِهِ ما صارَ بالمعصيةِ باطنُهُ. تنكَّرَ للحقيقةِ مُستنجدًا بما وجدَهَ مِن أوراقِ التينِ[2]. حاكَ لنفسِهِ ظاهرًا يستُرُ باطنَهُ، ومُذَّاكَ راحتِ الهُّوةُ فيهِ تتَّسِعُ. وما انقسامُ الإنسانِ على ذاتِهِ إلَّا موتٌ. هذهِ الحقيقةُ عرفَها الأقدمونَ فعرَّفوا الموتَ أنَّهُ انفصالُ النفسِ عنِ الجسدِ. كُلُّ مُنقسمٍ ميتٌ ويحتاجُ لمَن يُعيدُهُ واحدًا ليعودَ حيًّا.
أمَّا يسوعُ فواحدٌ، لا انقسامَ فيهِ. كما اتَّحدَت فيهِ الطبيعتانِ الإلهيِّةُ والإنسانيَّةُ، كذلِكَ اتَّحدَ فيهِ الظاهرُ والباطنُ. نقيٌّ شفَّافٌ، مَن رآهُ يرى الآبَ[3]، لأنَّهُ شعاعُ مجدِهِ وصورةُ جوهرِهِ[4] ولأنَّهُ يعملُ أعمالَهُ[5]. يعملُ ما يُعَلِّمُ ويُعلِّمُ ما يعمَلُ. جاءَ ليكشِفَ لنا أنَّ جوهرَ اللهِ محبَّةٌ، فلَم يختبئ خلفَ ظاهرٍ لا يشبهُهُ، بَل كشفَ لنا ذاتَهُ حُبًّا قولًا وفعلًا.
في أقوالِهِ تحذيرٌ مِن الانقسامِ على الذَّاتِ. فكُلُّ مملكةٍ تنقسِمُ على نفسِها تخربُ، وكُلُّ مدينةٍ أو بيتٍ مُنقسمٍ على ذاتِهِ لا يثبتُ[6]، وكُلُّ منقسمٍ على نفسِهِ يَبيدُ. وإذا كانت الوحدةُ مِنَ اللهِ فالانقسامُ مِنَ الشيطانِ. لذلكَ دُعيَ اسمُهُ شطَّانا، أي الَّذي يشطُرُ. ولذلكَ أيضًا قالَ يسوعُ في الفرِّيسيِّينَ أنَّ أباهُم هو إبليسُ[7]، وقد ولدَهُم في الموتِ مُقسَّمينَ ومُقسِّمينَ. أغراهُم بكذبِهِ ورياءِهِ فشابهوهُ كذبَهُ ورياءَهُ. أمَّا يسوعُ فأقوالُهُ حياةٌ للَّذينَ يسمعونَها ويعملونَ بِها. عشيَّةَ آلامِهِ، صلَّى يسوعُ لكي يكونَ الجميعُ واحدًا كما أنَّهُ والآبَ واحدٌ[8]. أرادَ وحدةَ الجماعةِ، وأرادَ أيضًا وحدةَ كُلِّ واحدٍ معَ نفسِهِ. فلا يُمكنُنا أن نكونَ واحدًا إذا كانَ واحدُنا اثنَين!
في أعمالِهِ استباقٌ للوحدةِ الَّتي أصلحَها بموتِهِ وقيامتِهِ. كانَ يسوعُ يُصالحُ طالبَ الشفاءِ مع اللهِ، ومعَ جماعَتِهِ، ومعَ نفسِهِ. لَم يشفِ يسوعَ جسدَ أيِّ عليلٍ مِن دونِ أن يشفيَ نفسَهُ مِن الخطيئةِ، مُصلِحًا ظاهرَهُ معَ باطنِهِ. وبعدَ الشفاءِ، كانَ يطلُبُ مِنَ المبروءِ أعمالًا تُظهِرُ باطنَهُ الصحيحَ. وقَد كَلَّلَ أعمالَهُ هذهِ وتمَّمَها إذ ماتَ عنَّا واحدًا فوقَ الصليبِ وقامَ، ليرمِّمَ فينا انقسامَنا المُميتَ ويؤهِّلنا للحياةِ الَّتي لا تزول.
بيسوعَ صِرنا شفَّافينَ أنقياءَ. يُعايَنُ اللهُ في قلوبِنا لكثرةِ نقاوتِها. أنرجعُ فنصيرَ مُنقسمينَ كما كُنَّا قبلُ؟ لماذا نُصرُّ على أن نُظَهِّرَ ما لا يُشبِهُ داخلَنا؟ نظهرُ كأنَّنا أبناءُ العالمِ بعدَ أن صِرنا بالمسيحِ أبناءَ اللهِ؟ نُخفي في باطنِنا صورةَ اللهِ. نُهمِلُها. نبدو أمامَ الناسِ بصورةٍ تُشبِهُ زيفَ العالمِ استعطاءً لرضاهُ. نسمحُ للعالمِ أن ينطبعَ في وجوهِنا بدلَ أن نطبعَ فيهِ وجوهَنا. ما أشقانا ناسًا روَّجنا لدينِ المظهَرِ في الإعلامِ ووسائلِ التواصُلِ حتَّى عبدناه.
ها نحنُ اليومَ واقفونَ أمامَ خيارَينِ لا ثالثَ لهُما: إمَّا أن نُحابيَ الوجوهَ كالفرِّيسيِّينَ ونستوجبَ مِن يسوعَ الويلاتِ، إمَّا أن نسمحَ للعالمِ أن يعاينَ فينا وجهَ اللهِ فنستحقَّ مِن يسوعَ التطويبات.
[1] متَّى 23، 25-27.
[2] تكوين 3، 7.
[3] يوحنَّا 14، 9.
[4] عبرانيِّين 1، 3.
[5] يوحنَّا 4، 34 ؛ يوحنَّا 6، 38 ؛ يوحنَّا 9، 4 ؛ يوحنَّا 10، 37.
[6] متَّى 12، 25.
[7] يوحنَّا 8، 44.
[8] يوحنَّا 17، 21.
اترك تعليقًا