صحراءٌ بلا زمن

ليسَت هذهِ صحرائيَ الأولى. مُذ قلتُ لكَ أنَّني أتبعُكَ حيثُ تَمضي، وأنا كثيرُ الترحالِ، لا أحمِلُ إلَّاكَ في سفري، أم بالحريِّ تحمِلُني أنتَ، وتسيرُ بي ارتفاعًا، نحوَ المُعَدِّ مِن أجلي، أنا غيرِ المُستحقّ. وفي طريقِنا ارتفاعًا، طالما عرَّجتَ بي إلى أماكنَ خاليةٍ لتُخاطبَ قلبي. هُناكَ، حيثُ لا ضبابَ يُغشِّي البصرَ، ولا ضجيجَ يُشوِّشُ السمعَ، تتجلَّى أنتَ لأعرفَ أنا وأفهمَ، فأُحبّ.

تُريدُ أن تكشِفَ لي ذاتَكَ، وذاتي. الطريقُ ارتفاعًا كلُّها كشفٌ. أمَّا الصحاريَ فيها فجُزءٌ مِنَ الكشفِ وكلُّه. هي التحضيرُ لبلوغِ الغاية، أمَّا الغايةُ فحاضِرةٌ فيها. وأنا أسيرُ ساغبًا لاغبًا بين هضابِها الخرساء، معتمرًا سماءَها الصافية، أستعطيكَ خُبزَ الحياةِ وماءَها. أنسى ما لي مِن قوتِ العالمِ وشرابِهِ، أنسى حتَّى ذكراهُ، وأكتفي بكَ مِن دونِ أن أكتفيَ مِنك. تُشبِعُ نَفسي وترويها، فتزيدَهَا جوعًا حلوًا وعطشًا لذيذًا للوليمةِ المُعدَّةِ، خلفَ الصحاري، وخلفَ الطريق.

مُذ جذَبتَني وراءَكَ ورُحنا نجري وأنت تأخذُني هُناكَ، حينَ أحتاجُ، لنُجدِّدَ العهودَ بيننا. أنتَ أمينٌ ولَم تتبدَّل. أمَّا أنا فأنسى. ذاكرتي حمقاءُ بعضَ الشيء. تأخذُني هناكَ لأصارِعَ بعضَ جَهلي وحماقَتي، وأغلُبَ بكَ، وأعودَ إلى عهدي معَك.

الآنَ، أنا في صحراء. لكنَّها بلا زمن. لا قيمةَ للماضي فيها. قَد سقط. دخلتُها مِن دونِ إنجازاتِ الأمسِ ولا إخفاقاتِهِ. ذكرياتي الَّتي جمعتُها ضمانةً حاولَتِ التسَلُّلَ مُتنكِّرةً، فبعثَرتَها مِن أجلي عندَ المفرق. رُبَّما شئتَ أنتَ ألَّا أتلهَّى ببياضِ تاريخي ولا بسوادِهِ. ومُستقبَلي الَّذي أهرقتُ نفسي في تخطيطهِ وتصميمهِ بعثرتَهُ أيضًا، وذرَّيتَهُ رملًا فوقَ الرمال. كنتُ قد رسمتُ مسارَ سنواتي القادمةِ كمَن يعيشُ أبدًا، ونسيتُ رُبَّما العيشَ الآنَ وهنا. وهاءَنذا الآنَ، للمرَّةِ الأولى، بلا ماضيَّ ولا مُستقبلي، تقودُني أنتَ في صحراءٍ بلا زمن.

الآنَ، أمكثُ معَكَ في صحراءِ اللَّا زمنِ مُضطربًا بعضَ الشيءِ، لكنَّني فرِحٌ راجٍ، أنتظِرُ انتصاركَ وعودَتنا معًا إلى الطريق. هُنا سينتصِرُ “الآنُ” الَّذي مُتَّ أنتَ وقُمتَ لتحقيقِهِ. أنتَ الَّذي أتيتنا شافيًا للماضي، تسألُنا ألَّا نهتَمَ لأمرِ الغدِ كالَّذينَ لا أبَّا لهُم. أنتَ الَّذي شفيتَ “الآنَ” مَن أتاكَ سقيمًا، وأدخلتَ “الآنَ” خلاصًا إلى بيوتِ الخطأة. أنتَ الَّذي افتتحتَ الفردوسَ فوقَ صليبِكَ وأهَّلتَ إليهِ “الآنَ” من استعطاكَ ولو حتَّى أن تذكُرَه. أنتَ الَّذي لا تنفكُّ أن تُعطينا ذاتكَ “الآنَ” طعامًا يغفِرُ الخطايا ويمنحُ الحياةَ الأبديَّة.

الآنَ، أنا في صحراءٍ بلا زمَن. أصارعُ بكَ ومعَكَ بعضَ نفسي. أُميتُ ما يُمرِضُ ذاكرتي وأدفنُه. أُسكتُ قلقي. اُسقطُ هوَسي بتفاصيلِ المُستقبل. أستسلمُ لل”آنِ” وأعلِنُ انتصارَه. أتسلَّحُ بالرجاءِ مُتَّكِلًا عليكَ، رفيقي، قائدي، نُصرتي. آمين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: