الخاطئُ يستحقُّ الموت. إنَّها القاعدةُ الدينيَّةُ العتيقةُ الَّتي استخلصَها الإنسانُ مُذ عرفَ أنَّ الموتَ، عدوَّهُ الأكبرَ، هو وليدُ الخطيئة. باسمِها، مارسَ الإنسانُ الموتَ علَّهُ يُبعدُ الموتَ ولَم يَنجَح. قتلَ القاتلَ، وقطعَ يدَ السارقِ، وقلعَ عينَ الزاني، ولَم ينجح. باسمها، يشتهي البعضُ، حتَّى يومِنا هذا، الموتَ لمَن أساءَ إليهِم. كانَ الخاطئُ نفسُهُ، إن أصغى لضميرِهِ، يعرفُ استحقاقَهُ الموتَ، فيستجديَ صفحًا ويستعطيَ هبةَ حياةٍ بديلةٍ مِنَ اللهِ، مِنَ الآلهةِ، مِنَ الناسِ، مِن أيِّ شيء.
الإنسانُ نفسُهُ الَّذي نظمَ القاعدةَ العتيقةَ وثبَّتَها، نظَّمَ حولَها الطقوسَ والعباداتِ المناسبة. ابتدعَ ذبيحةَ التكفيرِ، وأملى على الخاطئِ أن يُميتَ عنهُ نفسًا حيَّةً أُخرى، تحملُ عنهُ عاقبةَ إثمِهِ، ليأخُذَ مِنها حياتَها. فشرعَ الإنسانُ يُقدِّمُ الأضاحيَ الحيَّة ليفتديَ نفسَهُ بنفسِها غاسلًا خطيئَتَهُ بدمائِها. وكانَ أن طوَّرَ بعضُهُم الطقوسَ وحدَّدَها بفرائضَ وشرائعَ، فألزمَ تقديمَ حملٍ وديعٍ بريءٍ لا عيبَ فيهِ، يمنحُ حياةً نقيَّةً لا عارَ فيها.
توالَت أجيالُ المُتديِّنينَ الَّذينَ واظبوا على طقوسِ القتلِ. سالَت مِن معابدِهم أنهارُ دماءٍ حيوانيٍّ. لكنَّها ما أبرأت يومًا أحد. فشِلَت جميعُ الذبائح. كانَ الإنسانُ، لعلمِهِ الباطنيِّ بفشلِها، يعاودُها في أعيادِ الأضاحي السنويَّة، علَّها تنجحُ أخيرًا بتخليصِهِ مِن موتٍ مُحتَّم. فزادَ الإنسانُ على مصائبِهِ أن صارَ عبدَ الطقوسِ، يحتاجُ مَن يُعتقُهُ مِنها.
أمعنَّا في الإخفاقِ وزِدنا الشرورَ على الشرورِ. أمَّا اللهُ فقَد شاءَ لفيضِ حُبِّهِ أن يعتقَنا ويبرِّرَنا ويمنحَنا الحياةَ الَّتي لا تنتهي. فتبنَّى بنوعٍ عجيبٍ طقوسَنا الدمويَّةَ مُقدِّمًا ابنَهُ الوحيدَ ذبيحةً عنَّا. أبطلَت الذبيحةُ الحقَّةُ الذبائحَ العتيقةَ وأعتقَتنا مِن عبوديَّةِ طقوسِها.
شَهِدَ المعمدانُ ليسوعَ حينَ رآهُ مُقبلا. قالَ فيه: “هوذا حملُ اللهِ الَّذي يرفعُ خطيئةَ العالم” (يو 1، 29). هوذا حملُ اللهِ البريء الَّذي حمَلَ ثقلَ خطايانا، وسيقَ إلى الذبحِ مِن دونِ أن يفتحَ فاهُ، ليهبَنا بموتِهِ الحياةَ الحقَّة. هوذا الحملُ الَّذي صارَ لنفسِهِ حبرًا مُقرِّبًا. هو الحبرُ الأوحَدُ، لأنَّ اللهَ أقامَهُ وحدَهُ الوسيطَ ليصالحَنا معَهُ، ولأنَّ الذبيحةَ الَّتي قرَّبها فريدةٌ، واحدةٌ، عَن جميعِنا ومِن أجلِ جميعِنا.
غسَلَ الحملُ خطايانا بدمائِهِ وافتدانا من الموتِ بحياتِهِ. أبطَلَ القاعدَةَ الدينيَّةَ العتيقةَ، فصارَت الحياةُ لكُلِّ إنسان. جميعُنا مرحومون. خطايانا الكثيرةُ مغفورة. ما فعلناهُ قبلُ أو ما سيأتي بعد. كُلُّهُ مغفور. هذا لا يعني أن نستَغِلَّ بغبائِنا الرحمةَ الَّتي نِلناها عَن غيرِ استحقاقٍ، بَل أن نعيشَ أبناءً للآبِ الَّذي شاءَ لنا الحياةَ وقبِلَ ذبيحةَ ابنِهِ الوحيدِ، وأن ننفتِحَ على عملِ الروحِ القدسِ الذَّي يؤوِّنُ حدثَ الفداءِ في أسرارِ الكنيسةِ وحياتِها.
“هوذا حملُ اللِه”، بُشرى رجاءٍ تُعلِنُ لنا، إذا كبَّلَنا اليأسُ أحيانًا، أنَّ جميعَ خطايانا، مهما عظُمَت، مغفورة. هي بُشرى تشجيعٍ تُشهِّينا عيشَ الأسرارِ والمواظبةَ عليها إذا فتُرَت يومًا عزيمتُنا. هي بُشرى فرحٍ، متى وصلَت إلى مسامِعِنا، تُطلِقُ ألسنتَنا بتسبيحِ اللهِ الآبِ والابنِ والروحِ القدس.
اترك تعليقًا