في العادةِ لا أتكَّلمُ في السياسة. أردتُ فقط أن أسردَ بسطوري هذهِ بعضَ ذكرياتي مع لبنان.
ولدتُ في حربٍ لا أذكرُ منها شيئا. في الواقعِ أنَّ نصفَ سُكَّانِ لبنانَ اليومَ هُم دونَ الثلاثينِ ولا يذكرونَ مِنَ الحربِ شيئا. هذا فقط إذا أردنا إحصاءَ اللبنانيِّينَ مِنَ السكَّان، لأنَّ ثلثَهُ أصلًا ليسَ مِنَ اللبنانيِّين. ولدتُ، وأنا مُذَّاك، أدفعُ ثمنَ حربٍ، لا يذكرُ مِنها شيئًا إلَّا بعضُنا القليل.
كنتُ في سنواتِ مراهقَتي يومَ شاركتُ في تظاهرةٍ وطنيَّةٍ للمرَّةِ الأولى… والأخيرة. نزلنا حينَها أنا وأصدقائي إلى ساحةِ الشهداء. ثُرنا من أجلِ أرزِنا. كنتُ هناكَ إلى جانبِ الملايين. بكَينا هُناكَ وحلمنا. اعتقدنا أنَّ نتائجَ ما بعدَ الحربِ، الَّتي لا ذنبَ لنا فيها، ستُمحى أخيرًا. اعتقدنا أنَّ الرقعةَ الجغرافيَّةَ الَّتي نعيشُ عليها ستُصبحُ وطنًا، فيهِ ماءٌ وكهرباءٌ على الأقلّ. كانَ الحلمُ كبيرا. حتَّى والدي الَّذي لا يتعاطى الشأنَ السياسيَّ أبدًا كانَ هُناكَ، واصطحبَ في سيَّارتِهِ أولادَ عمِّيَ الصغار. كلُّنا نزلنا… وانخزلنا.
ما خجلنا أن نعيدَ الكرَّة. بايعنا من تقاتلوا على أرضِنا. بايعنا مَن ندفعُ إلى اليومِ ضرائبَ حروبِهم. خيبةُ أملِ ثورةِ الأرزِ تخنقُني إلى اليوم، أنا وجميعَنا. قَد لا نكونُ واعينَ إلى حجمِ ما فعلَت بنا. لكنَّها دمَّرت ما كانَ فينا من وطنيَّة.
كنتُ أدرسُ في إحدى أجملِ مدارسِ بيروت. تخرَّجتُ واخترتُ الحياةَ المُكرَّسةِ وانقطعتُ عَن زملائي فترةً طويلة. راحوا يهاجرون. الواحدُ تلو الآخر، يحملونَ أحلامَهم ويهاجرون. كنتُ أحزنُ كثيرًا لحالهم. ألومُهم لأجلِ خياراتِهِم. ما كنتُ أعرفُ بعدُ أنَّهُم هم استفاقوا مِن نشوةِ الثورةِ، أمَّا أنا فكنتُ لا أزالُ تحتَ تأثيرِ المخدِّر.
بقيتُ في بلدٍ يقولونَ أنَّهُ طائفيّ. كذب. ليسَ لبنانُ طائفيًّا! لم يكُن يومًا! في لبنانَ لا يعرفُ أحدٌ دينَهُ. لو عرفوهُ لكُنَّا بخيرٍ. لبنانُ مجموعاتٍ قبليَّةٍ، عشائرَ متُقاتلةٍ، يرأسُها إقطاعيونَ يرتدونَ حللَ دينيَّة. يتحجَّجونَ بالطوائفِ وشرائعِها فيحرِّكونَ مواشيهِم يمينًا ويسارا.
بعدَ حربٍ داميةٍ ما كانَت لها أسبابٌ واضحةٌ، ونتائجُها بالطبعِ غيرُ واضحةٍ، جاءَ البابا القدِّيس إلى لبنانَ لأنَّهُ أرادَ لشعبنا العيشَ بسلام. حملَ معهُ لنا الرجاء. ما سمِعَهُ أحد! ما أخذوا منهُ شيئا. لا شيء! إلَّا جملةَ: “لبنانُ أكثرَ من وطنٍ، إنَّه رسالة”. يستعملونَها أينَما شاءُوا. لكثرةِ ما سمعتُها في سنواتي الثلاثينِ، أشعرُ برغبةٍ عارمةٍ أن ألطمَ بشدَّةٍ مَن يُرِّددُها أمامي، لأنَّني أعرفُ تمامًا أنَّهُ يُخفي خلفَها كذبَهُ ورياءَهُ.
تذكَّرتُ شيئًا الآن. تعرَّفتُ إلى ضيعتي لمَّا كنتُ في سنتي الرابعةَ عشَر. لا أعرفُ لماذا كانَ عليَّ أن أنتظرَ هذا الوقتَ كلَّهُ. لا أعرفُ لماذا إلى اليومِ، وأنا في الثلاثينِ، لم استَعِد منزلي بعدُ، علمًا أنَّ الجميعَ يُجمعونَ أنَّ هذا حقِّي. حتَّى مَن سلبَني حقِّي قالَ لي أنَّ هذا حقِّي!
أعودُ إلى حديثِنا. شاهدتُ لبنانَ يسقطُ يومًا بعدَ يومٍ إلى الهاوية. في كلِّ مرَّةٍ كنتُ أقولُ أنَّنا وصلنا إلى القعرِ، وفي الغدِ تبدأُ البلادُ بالتحسُّن. لا يُمكنُ أن تسوءَ الأحوالُ أكثَر. وأعترفُ أنَّ للبنانَ موهبةٌ فريدةٌ بابتداعِ المُفاجآت. فبعدَ كلِّ قعرٍ، تأتينا، من حيثُ لا ندري، سقطةٌ أُخرى إلى قعرٍ أدنى.
ربَّما تتوالى علينا المصائبُ لأنَّنا تربَّينا بشكلٍ خاطئ. تربَّينا في جوٍّ فيهِ القليلُ من الوطنيَّةِ والكثيرُ من الأنانيَّة. في مدارسِنا كتابُ تربيةٍ وطنيَّةٍ يحكي عن وطنِ عجائبٍ لا أعرِفُ أينَ يكون، يُسطِّرُ فيهِ الطلَّابُ العباراتَ لحفظِها، فقط من أجلِ امتحانِ آخرِ السنة. في الامتحانِ طبعًا ينجحونَ، أمَّا في المواطنةِ فيرسبون. لنكُن واقعيِّين: أيُّ مواطنةٍ في لبنانَ ونحنُ تعلَّمنا النشيدَ الوطنيَّ فقط من أجلِ ثورةِ الأرزِ، ولا نتذكُّر منهُ إلى اليومِ إلَّا “تا تا تا تم”؟
نحنُ لسنا مواطنين. أمَّهاتُنا يعلِّمننا “الأبانا” و”السلام” حينَ نكونُ في سنِّ الثالثة. أمَّا النشيدُ الوطنيُّ فلا مكانَ لهُ في منازلِنا. في مدخلِ البيتِ مصحفٌ نقبِّلُهُ كلَّما مررنا بجانبِهِ، أمَّا الأرزةُ فليسَت بينَنا. أيمنعُ التديُّنَ عنَّا المواطنة؟ أيُّ دينٍ يكونُ هذا؟
نحنُ لسنا مواطنين. نحنُ مجموعةٌ مِنَ الأنانيِّين والانتهازيِّين. كنتُ لا أزالُ في لبنانَ يومَ غرقَت بيروتُ تحتَ النفايات. في تلكَ الأيَّام، شاهدتُ نساءَ يرمينَ أكياسَ النفاياتِ مِنَ الطبقةِ السادسةِ والسابعةِ إلى الشارع! حتَّى الفوضى نستغلُّها. فجميعُنا مرضى الأنانيَّة.
نريدُ سقوطَ النظام. أليسَ مَن في النظامِ من بينِنا؟ أليسَت خصالُهُم خصالُنا؟ من سيأتي بعدَهُم سيكونُ مثلَهُم. فيهِ المقدارُ الكافي مِنَ الأنانيَّةِ ليستحقَّ أن يُدعى لبنانيًّا. لا يسقطُ الرؤساءُ مِنَ السماء. سيختارُهُم شعبٌ أنانيٌّ، وينتدبونَهُم ليمارسوا الأنانيَّةَ بالنيابةِ عنهُم.
رحلتُ عَن لبنانَ. ما أردتُ الرحيلَ أنا. كانَت تلكَ إرادةُ الكنيسة. إنَّها المرَّةُ الأولى الَّتي أُخبِرُ فيها ما شعرتُ بهِ حينَ غادرَت طائرتي مطارَ بيروت. كانَ مزيجٌ مِن حزنٍ وسخطٍ. بانَ في عينَيَّ بريقُ دمعةٍ، بعضُها ألمُ فراقٍ، وبعضُها فرحُ رحيل. حتَّى الدمعةُ اللبنانيَّةُ فيها الكثيرُ مِنَ الأنانيَّة. أحببتُ لبنانَ وكرهتُهُ. يومَها، كنتُ لأُلقي بنفسي مِنَ الطائرةِ لأبقى. وكنتُ لأُلقي فوقَهُ غبارَ أقدامي وأتمنَّى عدمَ العودةِ أبدًا!
اليومَ احترقَ لبنان. لا أعرفُ بعدُ ماذا عليَّ أن أشعر. كنَّا في القعرِ، وسقطنا، كما العادةِ، في قعرٍ أعمَق. أتساءَلُ: أيُّ قعرٍ لنا بعدَ قعرِنا هذا؟
في لبنانَ اليومَ، جلسَ رجلٌ ملعونٌ، جوازُ سفرِهِ لبنانيٌّ، يشاهدُ الحرائقَ المندلعةِ هُنا وهُناك. كَتبَ في حسابِهِ على “فيسبوك” العبارةَ التالية: “لبنان يحترق… تفو عَ الدولة الفاسدة”. ثُمَّ اتَّصلَ بصاحبِ محالِ النرجيلةِ القريب، وطلبَ منهُ إرسالَ نرجيلة “اكسترا”، فوعدهُ البائعُ أن يرسلَ إليهِ معَها فحمًا طازجًا “شغل اليوم”.
اترك تعليقًا