يَنبَغي أن أكونَ في ما هو لأبي

اللهُ يدعو مَن يشاء. وحكمتُهُ في اختيارِ أحدِهِم للحياةِ المُكرّسةِ تفوقُ أيَّ حكمةٍ بشريَّةٍ. لا تتشابهُ تمامًا قِصَصُ المدعوّينَ لأنَّ لِكُلِّ واحدٍ منهُم سيرةٌ فريدةٌ معَ الله. حينَ يختارُ أحَدُهُم الحياةَ المُكرّسة، ساعيًا لتلبيةِ دعوةِ اللهِ لهُ، قد يواجهُ قبولَ أهلِهِ وتشجيعَهُم، ولكنَّهُ قد يَصطَدِمُ برفضِهِم، إذ يُحاوِلونَ ثَنيَهُ عَن خيارِهِ بشتّى الطُرُق. يُعبِّرونَ عن انزعاجهم، يتمنُّون العدولَ عَن قرارِ التكرُّس، يفرضونَ ما يرونَهُ مُناسبًا، وحتّى في بعضِ الأحيان، يُعادونَ أولادَهم.

أبناءٌ مدعوُّون وآباءٌ يرفضون

جميعُنا سَمِعنا قِصَصًا. عَن شابٍ تنَكَّرَ لهُ أبوهُ مُنذُ يومِ رسامتِهِ الكهنوتيّة مثلًا، أو شابٍ آخرٍ انهارَت أُمُّهُ يومَ أخبَرَها أنّهُ سيدخُل المدرسة الإكليريكيّة، أو فتاةٍ أُرغمَت على تركِ الديرِ والعودةِ إلى المنزل. فمُجتَمعُنا مليءٌ بحكاياتٍ كتِلك. وسِيَرُ القدّيسينَ لا تخلو مِن مواجهاتٍ بينَهُم وبينَ والديهِم، حتّى أنَّ بعضَهُم اضطُرَّ لمخالفةِ والدَيهِ ودخولِ الحياةِ المُكرَّسَةِ رغمًا عنهُما.

أسبابُ الرفضِ كثيرة. أحيانًا يكونُ نتيجةَ الأنانيَّةِ وحُبِّ التملُّك، فلا يرضى الوالدانِ أن يذهَبَ ابنهُما في طريقِهِ. ومنهُم من يرغَبُ أن يُحقِّقَ لهُم أبناؤهم أحلامَهُم، بأن يصيروا أطبّاء ومُهندسينَ، كما هو رائجٌ في أيّامِنا هذه. وأحيانًا أُخرى، يأتي الرفضُ نتيجةَ بعضِ الأحكامِ المُسبقةِ الّتي تُشوِّهُ حَقيقةَ الحياةِ المُكرّسة، فيعتَقِدُ البعضُ أنّها حياةُ قسوٍ وحُزنٍ مِن دونِ تعزيات. وأسهمَت شهاداتٌ سيّئةٌ لبعضِ الكهنةِ والمُكرّسينَ بتشويهِ صورةِ الحياة المُكرّسة الحقيقيّة.

ولا ننسى المخاوِفَ الصغيرةَ الطبيعيّة الّتي تدفعُ الأهلَ إلى التردُّدِ في شأنِ تَكَّرُسِ أحدِ أبنائِهِم، كالقلقِ على مُستقبلِهِ المجهولِ نوعًا ما، خصوصًا إذا جاءَهُم خبَرُ خيارِهِ مُفاجئًا ومِن دونِ تحضيرٍ مُسبق. غالبًا ما يتخطّى الأهلُ تِلكَ المخاوِفَ الطبيعيّة بعدَ دخولِ ابنِهِم الحياةَ المُكرّسة.

رفضٌ إيجابيٌّ

ليسَ كُلُّ رفضٍ سلبيًّا. لأنَّ الرفضَ المَبدئيَّ يترافقُ معَ الدعوةِ في طبيعةِ الحال. في مُعظَمِ نصوصِ الدعوةِ في العهدَينِ القديمِ والجديد، يُبدي المدعوُّ ترَدُّدًا في قبولِ دعوةِ الربِّ لهُ. وفي السياقِ نفسِهِ، يبدو مِن الطبيعيِّ أن يُبدي الأهلُ قَلَقَهُم مِن دعوةِ اللهِ لأحدِ أبنائِهِم، لا سيَّما أنَّهُم معنيّونَ ومسؤولونَ عَن مُرافقةِ المدعو. وقَد يكونُ الرفضُ المبدئيُّ في بدايةِ الطريق، مُحفِّزًا يدفعُ المدعوَّ للمضيِّ قُدُمًا.

قيلَ في الماضي، أنَّ البيتَ الّذي يدعو اللهُ أحَدَ أفرادِهِ، إنّما اللهُ راضٍ عَنهُ. قد لا نوافقُ المثلَ الشعبيَّ تمامًا، لكنَّه لا يخلو مِن بعضِ الحقيقة. لأنَّ العائلةَ هي المكانُ الأوّلُ الّذي يتعرّفُ فيهِ الولدُ إلى إيمانِهِ، وفيهِ تبدأُ قصَّةُ دعوتِهِ. ويكونُ دورُها، أوّلًا، في نقلِ الإيمانِ إلى الأبناء. وإذا كان في الوالدَينِ روحُ التمييز، استطاعا مُساعدَة المدعوِّ مِن أبنائهِم على تمييزِ دعوةِ اللهِ لَه. في هذهِ الحالة، يُمكِنُ للرفضِ أن يكونَ نتيجةَ صلاةٍ وتمييز، شَرطَ أن يكونَ الوالدانِ مُستَسلمَينِ حقًّا لعملِ الروحِ القُدُس.

أنا في بيتِ أبي

أمام دعوةِ الله لأحدِ أبنائِهِما، إذا شعرَ الوالدَانِ بالخوفِ والتردُّد، فليذكرا ما صنعَ الربُّ معَ ابراهيمَ. أحبَّ ابراهيمُ ابنَهُ اسحق، فأمَرَهُ الربُّ بقتلِهِ. وحينَ قامَ ابراهيمُ ليفعَلَ كما أُمِرَ، صانَ الربُّ لهُ ابنَهُ وقُدِّمَ كَبشٌ فداءً عنهُ (تك 22). أدَّبَ الربُّ ابراهيمَ لأنَّهُ أحبَّ العطيَّةَ أكثَرَ مِن عاطيها. ويسوعُ، يومَ بقيَ في الهيكَل يُجادلُ الحكماء، جاءَتهُ مَريَم تُعاتِبُهُ لأنّها قلقةٌ عليه، فأجابَهَا يسوعُ ويوسفَ معها: “أما تعلمانِ أنَّهُ ينبغي أن أكونَ في ما هو لأبي؟ (لو 2، 49)”.

فَلْيَنسَ الوالدانِ الحسابات الأرضيَّةِ الضيِّقة، مؤمنينَ أنَّ  لا خيرَ لأبنائِهِم أفضَلَ مِن تلبيتِهِم دعوة الربِّ لهُم. والربُّ الّذي يدعو، لا يتخلّى عَن مدعوِّيهِ. وليُساعدا على التمييزِ في جوٍّ مِن الصلاةِ والاستسلامِ لمشيئةِ الله. ولا ينتهي دورُ الوالدَينِ بعدَ دخولِ ابنِهِم الحياةَ المُكَرَّسة. فهما المرافقانِ الدائمان، يُشجّعانِ ابنهما في الطريقِ، إذا استطاعا، ويصلّيانِ مِن أجلِهِ.

6908619_orig

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: