ظهَرَت في القرونِ المسيحيّةِ الأولى بدعةُ “المرقيونيّة” الّتي فصلَت بينَ عهدَي الكتابِ المُقدّس وقطعَت العلاقة بينهما، فصوّرَت الأوّلَ كتُبًا بلا منفعة، تُناقِضُ شريعةَ المحبّة الّتي كشفها اللهُ لنا بابنهِ يسوع المسيح، وتبنَّت الثاني من دونِ سواه.
أمّا في أيّامِنا هذه، بعد مرورِ حوالي تسعة عشر قرنًا، فلا يزالُ الكثيرُ مِن المؤمنين إمّا يعتقدونَ بالمرقيونيّة، أو يمارسونَها عَن غيرِ قصدٍ. بعضُهُم، إن قرأ الكتاب المُقدّس، نبذَ عهدَهُ القديم، لصعوبةِ آياتِهِ أو لكثرتها، والتزمَ العهدَ الجديد الّذي آلفهُ. وبعضُهُم الآخر يُجاهرُ علنًا بتركِهِ العهدَ الأوَّل على أنَّهُ “عتيقٌ”، أزالَهُ الربُّ يسوع، وإلهُهُ إلهٌ غضوبٌ لا يُشبِهُ إلهَ المسيحيّين.
في الواقِعِ، أوضَحَ يسوعُ بنفسِهِ أنَّهُ لَم يأتِ لينقُضَ الكُتُبَ الّتي حضَّرَت مجيئَهُ ولا شريعَةَ العَهدِ القديم، بل جاءَها مُتمِّمًا (متّى 5، 17)، يُعلِّمُ الناسَ المَحبَّة، حتّى بذلِ الذات، وقد بلَغَ بهِ الحُبُّ الغاية حتّى الموتِ فداءً عَنِ الجميع. فالشريعة التّي أعطاها الله لموسى، جاءَت تحضيرًا تُهيّئُ الناسَ لقبولِ رسالةِ يسوع. وهو، في أيّامِهِ على الأرض، علَّمنا المحبّة الّتي تُكمِّلُ الشريعة الأولى، ولَم يكتفِ بالحديثِ عنها، بل حقّق بالفعلِ ما أوصانا بِهِ، إذ مات عنّا نحنُ أحبّاءَهُ، غافرًا للجميع، وقامَ مِن بينِ الأموات واهبًا الحياة للجميع. وقد أرسلَ روحَهُ القدّوس لكيّ يُعلِّمَنا ويُذكِّرُنا كُلَّ شيء، فنثبُتَ في المحبّة.
وتؤمِنُ الكنيسة أنَّ ما كُتِبَ في عَهدَي الكتابِ المُقدَّس، وإن دوِّنَ بأيدٍ بشريّةٍ ناقصة، ألهَمَهُ روحُ الله. فالأنبياء الذّينَ هيّئوا مجيءَ المُخلِّص ألهمهُم الروحُ القُدُس. والإنجيليّونَ الّذينَ دوّنوا أحداثَ رسالةِ يسوعَ على الأرض، ألهَمَهُم الروحُ القُدُس. والرُسُل الّذينَ كتبوا الرسائلَ اللّاهوتيّة والرعويّة، ألهَمَهُم أيضًا الروحُ القُدُس. فليسَ في الكتابِ المُقدَّس ما ليسَ مِنَ الروحِ القُدُس. وما كُتِبَ بالهامِ الروحِ الواحِد، هو واحدٌ لا يتجزّأ.
عبَّرَ القدّيس أغسطينوس أفضلَ تعبيرٍ عنِ العلاقةِ بينَ العهدَين: “في العهدِ القديمِ يختبئُ العهدُ الجديد، وفي العهدِ الجديدِ ينكشِفُ العهدُ القديم”. لأنَّ العَهدَ القديمِ يُفهَمُ في ضوءِ حدثِ موتِ وقيامةِ الربِّ يسوع، والعهدُ الجديد، يجِدُ لهُ التفسيرَ بينَ صفحاتِ العهدِ القديم المُلهَم، الّذي يُهيّئُنا فاتحًا قلوبَنا لاستقبال الخبرِ السار.
نحنُ إذَن أمام كتابٍ واحدٍ بعهدَين متكامِلَين، يُهيّئُ الأوَّلُ الثاني، ويشرَحُ الثاني الأوَّلَ، وكِلاهُما معًا يُعلنانِ محبّةَ الله لنا، ويدعوانِنا لعيشِ الوصيّة العظمى، أي المحبّة. فلا ننبُذَّنَّ بعد عهدًا مِن الاثنين، بل لنتأمَّلنَّ بهما كامِلَينِ، لنغوصَ في عُمقِ محبّةِ اللهِ لنا، فنُحبَّهُ ونتحاب.
اترك تعليقًا