أن يتحدّى أحدُهُم نفسَهُ ويواجهَ العالَم: هكذا أرى الحياةَ مع المسيح. فلا مسيرة جديّة معَهُ مِن دونِ جهادٍ يوميٍّ، ومِن دونِ سعيٍ دائمٍ، بشتّى الطُرُق، لبلوغِ ملكوتِ السماوات، لأنّ البابَ المُفضي إليه ضيّقٌ جدًّا، وطريقُهُ مُكرِبٌ، وقليلونَ هُم مَن يجدون ويجُدّون (مت 7، 14)، ولأنَّ مَلكوتَ السماوات يُغتَصَبُ اغتصابًا (مت 11، 12).
بينَ الرفاهيّة والأشغالِ الشاقّة
يجتاحُ المسيحيّينَ نوعٌ مِن الكَسَل، يجعَلُهُم يكتفونَ بالقليل، راضينَ بالأعمالِ التقويّة الخارجيّة، إذا ما وُجِدَت. وقَد ظَهَر في الوسَط الكنسيّ تيّاراتٌ تُسخِّفُ جذريّة الحياةِ المسيحيّة. وهي باسمِ الرحمة توزِّعُ الخلاص هُنا وهُناك، على مَن يُريدُهُ ومَن لا يُريدُهُ. يتبعُها أعدادٌ كبيرة من المؤمنين، مُعظَمُهُم مِن الجيلِ الصاعِد، يعتقدونَ أنّ الحياةَ مع المسيح تقتَصِرُ على بعضِ النشاطات الرعويّة ذات الطابع الترفيهي.
والأسوأ هو ظهور تيّارٍ مُضادٍ آخَر، يُشدِّدُ على أعمال التقوى، وإماتَة الجَسَد وقَهرِ النفس، لكِن لا حُبًّا بالمسيح بل خوفًا مِنهُ. وأحيانًا لا حُبًّا بالمسيح ولا خوفًا مِنهُ، بَل حُبًّا بالتقوى والإماتة والألَم وحدَها، وأن يُحبَّ أحدُهُم الألَم مِن أجلِ الألم هو حالةٌ مرضيّةٌ باتَت مُنتَشِرة بشكلٍ يدعو إلى القَلَق. أتباعُ هذا التيّار هُم كالمساجينِ في مُعتقلاتِ المؤبَّد، يقومونَ بأشغالٍ شاقّة لَن تمنحَهُم الحريّةَ أبدًا.
الدعوة إلى الجهاد
دعانا يسوعُ صراحةً للجهادِ إذا أردنا اتّباعَهُ: أن نَحمِلَ صلباننا ونَكفُرَ بنفوسِنا ونَتبَعَهُ (لو 9، 23). لَم تَعرفِ الكنيسة يومًا قدّيسينَ بَلَغواَ القداسة مِن دونِ أيِّ جُهدٍ. بَعضُهُم استُشهِد، وبعضُهُم صارعَ التجارب حتّى لحظاتِهِ الأخيرة، وبعضُهُم عانى مِن ضعفِهِ وجاهَدَ مِن أجلِ التغلُّبِ عليه…
الاستعداد للجهاد
مَن أرادَ الجِهادَ احتاجَ أن يَستَعِدّ ويَتَحضَّر. لكُلٍّ منّا اختبارٌ خاصٌ مع المسيح، ولكُلٍّ منّا قِصّةُ جهادٍ فريدة لا تُشبِهُ غيرها مِن القصص. لكنَّ الاستعدادَ للجهاد هو واحدٌ، يقومُ على مبادِئَ ثلاث: الإيمانُ بأنَّ الربَّ هو القائدُ والمُنتَصِر، والرغبةُ الدائمة المُشتعِلة في قلبِ المؤمِن بالتماس وجهِ الربّ، والانتماءِ إلى الكنيسة الّتي تُعينُ المؤمنَ في جهادِهِ.
– انتصارُ الربّ: لا ينتَصرُ المُقاتِل إلّا إذا وثِقَ بقائدهِ. ولا يُمكِنُ لأحدٍ أن يُثابرَ في جِهادِهِ إلّا إذا أدرَكَ أنّ الربَّ هو القائد. الربُّ المُنتصِر لا يقودُنا إلّا نحوَ النَصرِ المؤكّد. في ذلِكَ رجاءُ كُلُّ مؤمنٍ يُجاهِدُ وهو يُدرِكُ أنَّ الغلبةَ للربِّ وحدَهُ (1 كور 15، 57).
– الرّغبة في البلوغ: يأخُذُ الجهادُ مِعناه إذا كان نابعًا مِن الرغبةِ المُشتعِلة بمُعاينة وجه الربّ: “وجهَكَ يا ربُّ ألتمس” (مز 26،8). هذه الرغبة تدفعُ الإنسانَ للبحثِ الدائمِ، مُتناسيًا ما يُبعِدُهُ عَن هدفِهِ الأسمى، مُتخطيًّا المصاعبَ على أنواعِها، مُحتملًا كُلَّ شيءٍ وصابرًا على كُلِّ شيء.
– عونُ الكنيسة: ويحلو الجهادُ حينَ نكونُ معًا. جمَعَنا المسيحُ في الكنيسة لكي نحملَ بعضُنا أثقالَ بعضٍ (غل 6، 2). إذا تَعبَ أحدٌ فينا يستنِدُ إلى الآخَر، وإذا تكاسَل آخرٌ يوبِّخُهُ ويشجّعُهُ الآخرون. وإذا تشجّع أحدُنا شجَّعَ الآخرين.
المعاركُ الأربَع
في الجِهادِ معاركٌ كثيرة يعيشُها المسيحيّ. ينتصِرُ أحيانًا ويخسرُ أحيانًا أُخرى. يتعبُ ويسقُط، ثمَّ يقومُ ويُتابِع. هذِهِ المعارِك أُرتِّبُها بأربع: التخلّي عَن كُلِّ شيء، التخلُّق بأخلاقِ المَسيح، الجهاد ضدَّ الخطيئة، والمثابرة على الصلاة.
– التخلّي عَن كُلِّ شيء: دعى الربُّ الرُسُلَ فتَرَكوا كُلَّ شيءٍ وتبعوه. وأمَرَ الشابَ الغَنيَّ أن يبيعَ كُلَّ شيءٍ ويوزِّع على الفقراء ويَتبَعَهُ بعدها (مت 19، 21)، لأنّ لا أحد يستطيع أن يعبُدَ ربَّين: اللهُ وما يملِك (مت 6، 24). تخلّى زكّا عَن أموالِهِ مِن تلقاءِ نَفسِهِ لصالحِ الفُقراء حُبًّا بيسوع (لو 19، 8). أمّا يسوع فقد وعَد أن يعوِّضَ على مَن يتخلّى مِن أجلِهِ أضعافَ، مَع الحياةِ الأبديّة (مت 19، 29). فلا يتردّد أحدٌ مِن أن يحسبَ كُلَّ شيءٍ نفايةً لكي يربَحَ المَسيح (في 3، 8).
– التخلُّق بأخلاق المسيح: مِن مُتطلِّبات الإيمان المسيحيّ أن يحيا المؤمِنُ حياةً جديدةً، تليقُ بالاسمِ الّذي دُعيَ عَلَيه، مُتخلِّقًا بأخلاقِ المسيح (في 2، 5). وهذا يَعني أن يكونَ المسيحيُّ متأمِّلًا في المسيح ومُقتديًا بِهِ: صبورًا، لطيفًا، وديعًا، مُحبًّا…
– الجهاد ضِدَّ الخطيئة: على المسيحيّ أن يُجاهد ضِدَّ الخطيئة جهادَ الدَمّ (عب 11، 4). وهذا ليس سهلًا، لأنّ عالم اليوم أباحَ الخطيئة وأعطاها غطاءً اجتماعيًّا وثقافيًّا. فالسُبابُ مثلًا، يراهُ الكثيرون على أنّهُ أمرٌ عاديٌّ ومقبولٌ اجتماعيًّا. ولا شكَّ أنَّ الجهادَ ضدَّ الخطيئة حربٌ ضروس، ولا مَفرَّ مِنها إذا أرَدنا أن نبلُغَ ما نسعى لإحرازِهِ.
– المُثابرة على الصلاة: مَن يُحبُّ الله يُكلِّمُهُ ويسمعُهُ. ومَن ثابَرَ على الصلاة جاءَتهُ التجاربُ على أنواعِها مُحاولةً تَشتيتَهُ. لذلك لا يتوقّفُ المؤمِنُ عنِ الصلاة ويَلتزِمُها في تفاصيلِ حياتِهِ اليوميّة. لذلكَ أوصانا الربِّ بأن نَسهَر ونصلّي (مت 26، 41)، مِن دونِ كللٍ أو ملَل.
مِن المؤكّد أنَّ الجهادَ الروحيَّ حلوٌ، يعيشُهُ المؤمِنُ بفَرَح، إذا أيقَنَ حاجَتَهُ إليه، وسارَ في طريقِ الربِّ، مُتّكلًا عليه، راجيًا أن يلتقي يومًا بوجهِهِ. هيّا إلى الجِهاد!
ابدعت
إعجابLiked by 1 person