خبراءُ اللّاهوتِ في عصرِ الإنترنت أكثرُ معرفةً باللهِ منَ اللهِ نفسه. فكثيرونَ من روّادِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ نصّبوا نفوسَهُم علماءَ بما لا يعلَمون، وأخذوا يُجادلون ويُحاجّون، وهم لا يدرونَ عمّا يتكّلمون، ولا يعرفونَ عمّا يدافعون. يُماحكونَ في موضوعاتٍ تافهة، وينعتونَ من لا يُشاركُهُم الرأي. ولا يقبلونَ أيَّ رأيٍ مُغايرٍ ولو جاءَ مِنْ أعلى سُلطةٍ كنسيّة. هؤلاءِ هُم “لاهوتيّو” عصر الإنترنت، جميعُهُم يتكّلمونَ ويُسهبون، وقليلونَ منهُم مَن يصغونَ حقًّا إلى الله.
فما هو اللّاهوت؟ هو الحديثُ عنِ الله. وكيفَ يُمكِنُ لإنسانٍ أن يتحدّثَ عمّن يجهلُهُ؟ وكيفَ يُمكنُ لإنسانٍ أن يعرفَ الله إذا لَم يَقبَل بَعد عطيّة كشفِ اللهِ عن ذاتِهِ. ليسَ لأحدٍ أن يدّعي المعرفة باللّاهوت ما دامَ قلبُهُ بعيدًا عن الله. وليسَ لأحدٍ أن يدّعي أنّهُ يعرفُ الله وهو لا يُجالسُهُ، ولا يلتقيهِ في الأسرار، ولا يواظبُ على قراءةِ كلمَتِهِ. أمّا “لاهوتيّو” هذا العصرِ فمِن جهلهم امتلأوا. والجهلُ يعمي ويزيدُ صاحبَهُ إفلاسا. معرفةُ الله خصيبة، وثمرُها إنسانٌ جديد. من يعرفُ الله يتشبَّهُ بهِ، ومن كانَ لاهوتيًّا حقًّا شابَهَ الله بتواضُعِهِ.
سأتجاسرُ وأتكلّمُ عن نفسي علمًا أنّني لا أدعو نفسي لاهوتيًّا بعد. أنا لم أترُك مقاعدَ الدراسةِ الجامعيّةِ منذ 11 سنة، وقد درستُ اللّاهوتَ ودرَّستُهُ، وقرأتُ كمًّا من الكُتُبِ والمقالات، وكتَبتُ في اللّاهوتِ آلافَ الصفحات. هذا كلّهُ ولا أزالُ إلى اليومِ كثيرَ الإخفاق. صحَّحَ مقالاتي العديد منَ الكهنة والعلمانيّين الخبراء وقد وجدوا فيها الكثيرَ من الأخطاءِ والهفواتِ والأفكارِ المُنتَقَصة. وانتقَدَ أصحابُ الفكرِ بعضًا من أفكاري الّتي آمنتُ بها. فصحّحتُ ووضّحتُ، وأوردتُ التصحيحَ في أسفلِ مقالاتي، ليرى كُلُّ قارئٍ كيف يتطوّرُ الفكرُ حينَ ينفتحُ على آراءِ الآخرين. وتجرّأتُ على إزالة مقالتَين بشكلٍ كاملٍ. لماذا؟ لأنّني أُدرِكُ جهلي ومحدوديَّتي وأعترفُ بهما؟ لماذا؟ لأنّني أريدُ أن أكبُر!
أمّا خبراء اللّاهوتِ العصريّون فلا يزالونَ يجادلون. وهُم لا يقرؤون. لم يحملوا كتابًا لاهوتيًّا واحدًا، وهُم مُقتنعونَ أنّهُم يعرفون. وكأنَّ اللّاهوتيّين الّذينَ سبقونا، مِن آباءٍ وقدّيسينَ ومُعلّمينَ هُم جُهّالٌ وقد تعبوا من غير منفعة. علمًا أنّ اللّاهوتيَّ الحقيقيَّ إذا ما أرادَ أن يبني فِكرهُ، بناهُ في ضوءِ ما قدَّمَهُ العمالقة الّذينَ سبقوه. لطالما ذكّرتُ طلّابي في معهدِ اللّاهوتِ، أنّهُ من أرادَ أن يكونَ لاهوتيًّا وجبَ عليهِ أن يجلِسَ للكتابة، الصليبُ أمامهُ والمكتبة وراءهُ.
وفي شأنِ المحبّة: هل يعرفُها هؤلاء “اللّاهوتيّون”؟ فهم يفهمون الغيرة على بيتِ الله كما يشاؤون. يُكفِّرون، ويشتُمون، وإلى جهنّم يُرسِلون. وكأنّ الحرفَ للحرفِ والشريعةُ أَولى من الإنسان. وهُم لا يعرفونَ الحرفَ أصلًا، بل خَطُّوهُ كما يشاؤون. فأيُ عارفٍ باللّاهوتِ يتجرّأُ ويُعلنُ نفسّهُ ديّانا. وحدهُ الجاهلُ، باسمِ اللهِ يقتُلُ اللهَ، ويؤلِّهُ ذاتَهُ. وهُمُ اليومَ هكذا فاعلون. باسمِ الله معارِكهُم يخوضون، من أجلِ انتزاعِ نصرٍ أرضيٍّ وغرورٍ فاسِدٍ، وهُم بالله أصلًا لا يأبهون، وأخاهُم يقتُلون ويقتُلون.
بالطبعِ أنا لستُ ممّن يقمعونَ الفكر. لكنّ الفكرَ إذا لم يولَد من المحبّة أُجهِضَ. وإذا لَم يَروِهِ التواضع ذبُلَ، وإذا كبُرَ مُنغلِقًا اختَنَقَ. حبَّذا لو يصِلهُم ما كتبتُ اليوم… لكنَّهُم غالبًا ما لا يَقرؤون.
اترك تعليقًا