أشتهي الاستشهاد. لا، لستُ أهذي. بل أنا بكاملِ قوايَ العقليّة؛ على ما أعتقد. أشتهي الاستشهاد واعترافي هذا ليسَ صورةً شعريّة. أشتهيهِ شهوةً وكأنَّ حياتي مسيرةُ توقٍ إليه. لا أدري إن كُنتُ سأستشهِدُ حقًّا. ليتَ اللّه يُعدُّ لي الفخرَ هذا! أقرأُ سيَرَ الرُسُل والشهداء وكيفَ أسلموا الروح كما يسوع بينَ يدّي الآب، غافرينَ لقاتليهِم، فأتمنّى لنفسي الميتةَ نفسها. فهُم اتّحدوا بالمسيح الاتّحاد الكامل الذّي أصبو إليه. ليتني أُدرِكُهُ. وإن كان استشهادي دربي إليه، فأنا أقبلُهُ، لا بل أشتهيه.
ليسَ مجنونًا أن أشتهي الاستشهاد، فتكون أُمنيَتي أن أُشبهَ بموتي يسوع، ذاكَ الّذي شابهَني بكلِّ شيءِ ما خلا الخطيئة (روم 3، 8). فيسوعُ هو الشهيدُ الأعظَم الّذي قدَّم ذاتَهُ فداءً عن الجميع. ومن أرادَ التشبُّهَ بهِ، أرادَ أن يُشبِهَهُ باستشهادِهِ. حسبُ التلميذ أن يكونَ مثل معلّمِهِ، والعبدُ مثل سيّده (مت 10، 25). أنا لستُ أهلًا، ولكنّني أرغبُ أن أشبِهَ، حتّى بموتي، مُعلّمي وسيّدي. أريدُ أن يشتركَ جسدي بجسدِ ابنِ اللّه، وأن يكتَمِلَ في جسدي ما نقُصَ من آلامِ المسيح (كور 1، 24). علّني إن مُتُّ معهُ أحيا معهُ (روم 6، 8).
ليسَ مجنونًا أن أُقدِّمَ استشهادي من أجلِ الكنيسة الّتي أُحبّ. أريدُ وبكاملِ إرادتي، أن أقدّمَ لها كُلَّ ذاتي: فكري، وموهبتي، وعاطفتي، وحريّتي، وحتّى جسدي. فيسوع أعلَنَ أنّ ما من حُبِّ أعظَمَ من هذا أن يبذُلَ الإنسانُ نفسَهُ من أجل من يُحبّ (يو 15، 13). ليتَ الحُبَّ يبلُغُ فيَّ الحدَّ هذا. ليتَني أصيرُ قُربانًا مطحونًا مقبولًا يُقرَّبُ عن الكنيسة ومن أجلِها.
أشتهي الاستشهاد لأنّي أنا الخاطئ أرغبُ بالتكفير عن خطاياي. فهي الأخيرة تأصّلت فيَّ، وأخذَت من أنانيّتي غذاءً لها. لن يقتُلَ فيَّ الأنانيّة تِلكَ سوى نقيضها، أي بذلِ الذات. الآتونَ من الضيقِ الشديدِ غسلوا حُللهُم وبيّضوها بدمِ الحمِل (رؤ 7، 14). فليُنعَم عليَّ بالضيقاتِ، وليمتزجْ دمي بدمِ الحمَل، ولتُغسَلْ بِهِ عنّي آثامي، فأرتديَ أمامَ العريسِ حلّةً بيضاء مغسولة.
أشتهي الاستشهاد لكنّهُ لا بدَّ لي من الاعترافِ أنّ قبول الاستشهادِ يتخطّى قدراتي البشريّة. فلا أحد يتجاسَر ويُعلِنُ الربَّ يسوع من دونِ خوفٍ، والسيفُ مُسلطٌ على عُنُقِهِ. ففي تِلكَ الساعة، حينَ يفتقدُ اللّه حبيبَهُ ويمنحَهُ نعمةَ الاستشهاد، يؤيّدُهُ الروحُ القدُسُ ويُثبّتُهُ ويُزيّنُهُ بالشجاعة كي يصرُخَ اسمَ يسوع ويُسلمَ روحَهُ بين يديّ الآب. يا لها عطيّةً سعيدة، نعمة الاستشهاد!
اترك تعليقًا