تمتحنُك، وأنت في مواقع التواصل الاجتماعيّ الحديثة، تجربة تزوير هُويّتك أو تجميلها، أو تأليف هُوّيّة أخرى، لا تعبّر عن واقعك، بل عن افتراضٍ تتمنّاه، أو عن صورةٍ أردتَ طبعها في الآخرين. فالإنترنت كسّر حواجز الواقع، وأخرجك من حدود الجغرافيا والتاريخ، ومنحك القدرة لإنشاء علاقاتٍ عابرة القارّات، تُشعرك بالحاجة للظهور أمام العالم بصورةٍ تعتقدها الأمثل. تُهدّد هذه التجربة كلّ من يُبحرُ في عالم الإنترنت، والدخول فيها صار السبب الأساس لما نُحدّده اليوم بأزمة الهويّة.
هُوّيّتان تتباعدان
يبني الإنسان هُوّيّةً خاصّة له في مواقع التواصل الاجتماعيّ، تتكوّن من شكله في الصور وطريقة إخراجها، ومن اسمه وطريقة تقديمه، وتمرّ بأسلوبه التواصليّ، لتصل إلى الحقائق التي يكشفها عن نفسه، والخفايا التي يصمُت عنها. فكلّنا نحمل هُوّيّتين، الواحدة واقعيّة متجسّدة، والثانيّة افتراضيّة إيديولوجيّة، كلّما زاد التطابق بينهما زادت مصداقيّتنا.
أمّا في شأن إخفاء الهُوّيّة الحقيقيّة، فله الكثيرُ من الأسباب، بعضها نُدركها وإراديّة، وبعضها لا نُدركها، وهي لا إراديّة. منها الخوف من نظرة الآخرين، خاصّةً إذا ما كنّا من غير المتصالحين مع الواقع. ومنها أيضًا الرغبة في التطابق مع مواصفات فرضها المجتمع، للظهور في صورةٍ نخالها الأجمل.
هُوّيّات منحرفة
كما تنتشر في مواقع التواصل هُويّات مزيّفة لا أخلاقيّة، دوافع إنشائها إمّا منحرفة، وإمّا جُرميّة في بعض الأحيان. فقد يلجأ أحدهم إلى انتحال صفة أو شخصيّة بهدف القرصنة أو السرقة، أو بهدف الابتزاز والتحرّش. طبعًا تلك الممارسات غير الأخلاقيّة تجرّمها قوانين الكثير من الدول، إلّا أنّ إلقاء القبض على المخالفين يتطلّب الكفاءات العاليّة في المجال الرقميّ.
إسقاط لا إراديّ
على منوالٍ آخر، يصعبُ على المتلقّي في الجهة الأخرى، أن يُدرك هُوّيّة المُرسِل كما هي، لِما في التواصل من تشويشٍ وتشويه. مثلًا، إذا تلقّيت رسالةً نصّيّة من مجهول، غالبًا ما تحاول تخيّله شكلًا وتعبيرًا. وإذا طال التواصل، بنيت له صورةً، تكوّنها من اختباراتك، ممّا يخالج قلبك من أماني وانتظارات ومخاوف وانكسارات، قد لا تطابق صورته الحقيقيّة أبدًا بل تناقضها. فأنت تُسقطه في عالمك، لأنّ الإنسان بحاجة لتجسيد ما هو افتراضيّ في واقعٍ محسوس.
نحو الحقيقة
ختامًا، لا بدّ أن يتحوّل كلّ لقاء افتراضيّ إلى لقاءٍ حقيقيٍّ جسديّ، يسمح لك بالتعبير عن هُوّيّتك والفهم اليسير لهُوّيّة الآخر الحقيقيّة. فلكي نطابق الهُوّيّتين، الافتراضية والواقعيّة، وجَب علينا أن نجسّد في العالم الحقيقي كلّ ما نعيشه في العالم الرقميّ.
أمّا الأجيال القادمة، فهي أمام خطر قبول الازدواجيّة وتبنّيها على أنّها طبيعيّة. لذلك، نحن اليوم بحاجةٍ ماسّة، إلى منهجيّات تربويّة، تساعد الأفراد منذ الطفولة، على بناءِ هُوّيّتهم الصادقة، وتربّي فيهم الأمانة إلى الحقيقة. فالهُوّيّات في أزمة، ولن ينقذها من مدّ العالم الرقميّ، إلّا التربية على الحقيقة.
اترك تعليقًا